هذه المرة كانوا حراسا من منشأة الغاز التي تديرها شركة نمساوية في جنوب غربي الصحراء الليبية. ظهروا مقطوعي الرؤوس في سلسلة من الصور المنشورة في وسائل الإعلام الاجتماعية يوم الثامن من آذار (مارس). قبل بضعة أسابيع من هذا ذُبح 21 عاملا مسيحيا من الأقباط المصريين الذين تعالت صلوات بعضهم أثناء ذبحهم في مدينة سرت الساحلية الوسطى. وقبل شهر من ذلك كان اقتحام فندق كورنثيا، من فئة الخمس نجوم، في طرابلس وقتل تسعة أشخاص، بمن فيهم أفراد من جنسيات أمريكية وفرنسية. كانت الرسالة واضحة: لم توسع "داعش" نطاق شبكتها في ليبيا الفوضوية المتحاربة فحسب، بل تمكنت من نشر مخالبها في جميع أنحاء هذا البلد الصحراوي الشاسع الغني بالنفط. "ما الشيء الآخر الذي يجب أن يحدث حتى يدق ناقوس الخطر"؟ يسأل مسؤول بارز في الحكومة الإيطالية، الدولة التي تعد من بين البلدان الأكثر قلقا من ظهور "داعش" في قلب مستعمرتها السابقة. "كل الدلائل تتجمع. ينبغي لنا تجنب ما حدث في سورية. نحن لم نفهم الطبيعة المثيرة للمشكلة واستيقظنا مع تدهور الأمور". ظهور "داعش" أضرّ ما كان بالفعل إجماعا غربيا هشا حول كيفية إنهاء حرب أهلية ليبية معقدة، وزاد من تشويه عملية إسقاط معمر القذافي عام 2011، التي كانت إنجازا مميزا للإدارات البريطانية والفرنسية والأمريكية. وقد تركت حدة المشكلة - وكذلك القيود السياسية الداخلية - شعورا بالعجز وقلة الحيلة، وهو شعور لم تبدأ مواجهته إلا الآن. وبالتالي تعود ليبيا مرة أخرى إلى جدول أعمال زعماء العالم. بشكل علني، تدعم القوى الغربية وجيران ليبيا استمرار محادثات بوساطة الأمم المتحدة، تهدف إلى فض النزاعات بين الحكومة المنتخبة ديمقراطيا ومقرها الآن في طبرق، وتحالفا يضم ميليشيات وجماعات سياسية إسلامية مدعومة من مصراتة، سيطر على العاصمة في آب (أغسطس) الماضي. تهدف الخطة إلى حشد حكومة وحدة وطنية فعالة يمكن أن تركز على استعادة النظام. لكن ظهور "داعش" وجماعات متشددة أخرى فجّر الذعر في بعض الأوساط من سيناريو كابوسي بدأت تفاصيله تتكشف: الجماعات الجهادية تسيطر على دولة غنية عند مفترق الطرق بين إفريقيا والعالم العربي وأوروبا. إطفائيون يحاولون إخماد حريق اندلع في مستودع للنفط في ميناء السدرة عقب تعرضه لقصف في 29 كانون الأول (ديسمبر) الماضي من أحد أطراف الحرب الأهلية المستعرة في ليبيا. تحت سطح الإجماع بشأن المحادثات التي تجري بوساطة الأمم المتحدة، هناك اختلافات عميقة حول ما يجب القيام به إذا، أو حين تفشل المحادثات. في الوقت نفسه، هناك حرب إقليمية بالوكالة تدور على الأرض. فمن ناحية تقدم مصر والإمارات دعما عسكريا قويا للحكومة في طبرق، في حين تضمن تركيا وقطر بقاء الحكومة المنافسة في طرابلس صامدة في موقعها. وفي الوقت نفسه، تنعم "داعش" بالمنطقة التي لا يحكمها أحد، كي تنمو وتكبر. وأبرز هجوم من قبل مسلحين يفترض أنهم جهاديون على متحف في تونس هذا الأسبوع، المخاطر الإقليمية المحتملة لظهور "داعش" في ليبيا. فقد قتل 19 شخصا على الأقل في الهجوم الذي يحمل بصمات تنظيمي القاعدة و"داعش". وتتحدث فيديريكا موجريني، منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، عن "مزيج متفجر" يبعد 250 ميلا عن شواطئ أوروبا، إذ تفيض ليبيا بالأسلحة والإرهابيين الذين يسيطرون على الأرض وينشرون الفوضى في البلاد التي تعتبر نقطة الانطلاق على طريق الهجرة البحرية الأكثر ازدحاما في العالم. لكن محاولاتها لفرض وتيرة التخطيط والانخراط تواجه المقاومة: كثير من الوزراء الأوروبيين يعتقدون أن من السابق لأوانه النظر إلى خيارات محفوفة بالمخاطر وطموحة، مثل مراقبة الحدود في الاتحاد الأوروبي، أو مهمة لحماية البنية التحتية. ويتحدث كبار المسؤولين عن الارتباك واليأس الواسع النطاق حول كيفية احتواء الأزمة. ويقول أحدهم "نحن في وضع مقلق". بعد أربع سنوات من الفوضى وعشرة أشهر من الحرب الأهلية، تعتبر ليبيا اليوم خليطا غير منظم من الجماعات المسلحة، مع برلمانين متنافسين وجهاديين متجولين. وتراجع إنتاج النفط من 1.4 مليون برميل يوميا في عام 2012 إلى نحو 200 ألف برميل يوميا، قبل أن يرتفع بواقع نصف مليون برميل يوميا تقريبا بحلول منتصف آذار (مارس). وفر مئات الآلاف من الناس من البلاد. الفصائل المتحاربة إلى الغرب توجد جماعة "فجر ليبيا" في طرابلس، وهي ائتلاف صعب ذو ميول إسلامية، بما في ذلك جماعة الإخوان المسلمين المحلية وبقايا الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة التي تعتبر على صلة بتنظيم القاعدة. وهي تحظى بدعم ميليشيات قوية من مدينة مصراتة التي أنهكتها المعارك، يبلغ عدد أعضائها عشرات الآلاف من المقاتلين الذين يقدمون أنفسهم على أنهم "ثوار" ليبيا الجديدة. ويشك دبلوماسيون في أنها تسلح وتمول جماعة أنصار الشريعة المرتبطة بتنظيم القاعدة ومسلحين جهاديين آخرين تحولوا بعد ذلك ليصبحوا "داعش". على بعد نحو 800 كيلو متر إلى الشرق، في طبرق، يوجد ما تبقى من الحكومة الليبية المنتخبة، التي لا يزال معترفا بها من قبل معظم المجتمع الدولي. عمودها الفقري: بقايا قوات الأمن القديمة وزعماء القبائل الذين تعاونوا مع الليبراليين مثل أنصار رئيس الوزراء السابق محمود جبريل. فازت في ثلاثة انتخابات، لكن في مرحلة ما فقدت المجموعة مكانتها العالية في المجتمع بحيث اضطرت إلى البحث عن ملجأ لها في عبَّارة يونانية راسية في ميناء طبرق. منقذهم المفترض رجل قوي مثير للجدل هو الجنرال خليفة حفتر، وهو قائد سابق في جيش القذافي. بدعم من مصر وروسيا والإمارات، تهاجم قواته الميليشيات الإسلامية في بنغازي، وكذلك حلفاؤها الذين يحملون السلاح في غربي ليبيا. ويشعر نقاد الجنرال حفتر بالقلق من أنه يستمتع بتدمير خصومه السياسيين الإسلاميين أكثر من كبح جماح الجهاديين. وهو الآن القائد الأعلى للقوات المسلحة في ليبيا. لكن في الوقت الذي ركز فيه على بنغازي، فإن الجهاديين المتنوعين – بعضهم جاء من سورية والعراق مدعيا الولاء لـ "داعش" - أنشأوا معاقل على طول الساحل في درنة ومدينة سرت المحاصرة. جزئيا، تعود كارثة ليبيا إلى الأشهر التي سبقت الإطاحة بالقذافي، بمساعدة الضربات الجوية للناتو، وفشل القوى الغربية في فهم تعقيد البلاد. جوزيف وكر - كوزنز، المستشار الدبلوماسي البريطاني السابق الذي كان يخدم في بنغازي، يقول "إن المسؤولين الغربيين منذ البداية كانوا مضللين بشكل صارخ حول طبيعة المؤسسات الليبية"، ويرجع ذلك جزئيا إلى المنفيين المؤثرين من ذوي الميول الإسلامية. ويقول "قيل لنا إن الجيش رحل، وإن القبائل لا تعني شيئا، والثوار في طريقهم لبناء دولة جديدة عصرية". ويتابع "كان أول شيء شاهدناه هو تمرد الجيش ضد القذافي، وأصبحت القبائل هي الهيكل الأكثر أهمية للنظام الاجتماعي". ويضيف "معظم الناس الذين شاركوا في الثورة عادوا إلى بيوتهم بعد أن ضمنوا هدفهم المتمثل في التخلص من الطاغية. الناس الذين واصلوا العمل بإصرار هم في الغالب الإسلاميون الذين لا يسعون فقط للمشاركة في المجتمع، ولكن لامتلاك الدولة". الرجل الذي لديه مهمة لا يحسد عليها يقوم خلالها بترقيع ليبيا ووضعها معا مرة أخرى هو مبعوث الأمم المتحدة الخاص، بيرناردينو ليون. وبقيت المحادثات حتى الآن متقطعة وغير منتجة بشكل مؤلم. وعمل تهديد "داعش" على زيادة الإلحاح على العملية، ويعتقد ليون أن إبرام اتفاق لا يزال ممكنا. ومع ذلك لا تزال المحادثات في مرحلة يعتبر فيها الاجتماع وجها لوجه بين الجانبين انتصارا. يقول عبد الرحمن السويحلي، السياسي المؤيد لـ "فجر ليبيا" من مصراتة "نحن لا نزال نرجو أن ينجحوا". لندن وواشنطن هما من بين الداعمين المتحمسين لمحادثات المصالحة ولا تريان أي بديل للخطة "أ" المتمثلة في السعي بصبر نحو حكومة وحدة وطنية. وتستلزم هذه الاستراتيجية الدفع نحو حوار موسع، حتى لو كان يترك ذلك سياسيي طبرق المنتخبين غاضبين، لأنه يجري إجبارهم على التعامل مع أعداء يعتبرونهم إسلاميين مغتصبين وبلطجية. ويقول دبلوماسي غربي يشارك في العملية "الجميع يشعر بالغضب حيالنا لإجبارهم على الجلوس مع كل هؤلاء الرجال التافهين. لم نكن نريد أن نكون في هذا الموقف. والحقيقة هي أن الحكومة والبرلمان اللذين نعترف بهما لا يسيطران على الإقليم". معضلة دبلوماسية بالنسبة إلى جوناثان باول، مبعوث المملكة المتحدة الخاص إلى ليبيا، فإن البلد يعاني "حربا أهلية تقود إلى حالة من الفوضى". ويقول "إن أكبر تهديد للغرب هو أن الفوضى في ليبيا تترك مساحة حرة للإرهابيين مثل تنظيم القاعدة و"داعش" للعمل". ويضيف "هناك طريقتان للتعامل مع ذلك - الخيار الأفضل، حكومة وحدة وطنية يمكن أن تفرض إرادتها في جميع أنحاء البلاد، أو على الأقل تحالف عسكري بين الجماعات المسلحة لمحاربة داعش". لكن القوى الخارجية تعمل على وضع خطط للطوارئ في حال فشل ليون. المطلعون في مصر والإمارات، التي ظلت لعدة أشهر توفر الأسلحة والذخائر والطائرات للجنرال حفتر، يعتقدون أن هناك فرصة بنسبة 50-50 للتوصل إلى اتفاق سلام في أحسن الأحوال. إنهم يشعرون بالهلع لعدم وجود خطة بديلة ويجرون استعدادات لما هو أسوأ – وكذلك تفعل تركيا وقطر، القوتان المنافستان الداعمتان للميليشيات في طرابلس. بالنسبة لهذه البلدان، التداعيات المحتملة لمزيد من الانهيار في ليبيا هائلة، خصوصا مع الاشتباه في دعم الجهاديين في ليبيا لهجمات في مصر والجزائر وتونس. وفي الوقت نفسه يضغط الجنرال حفتر على القوى الكبرى لرفع الحظر المفروض على الأسلحة من قبل الأمم المتحدة، لمساعدته على بسط الأمن والنظام. وقال لوكالة أنباء إيطالية "أنا أطلب من (رئيس وزراء إيطاليا ماتيورينزي) محاولة إقناع المجتمع الدولي برفع الحظر المفروض على الأسلحة ومساعدتنا على الكفاح من أجل ليبيا خالية من المتطرفين". وأضاف "إنه أمر حاسم بالنسبة لإيطاليا أيضا: إذا فازت "داعش" فإن أمنكم سيكون في خطر". وعلى النقيض من ذلك المعسكر المضاد لحفتر، الذي يجادل لاستخدام العقوبات التي تستهدف معاقبة أي تحركات من جانب الجنرال لتخريب محادثات المصالحة. وبالنسبة لباول وآخرين، المحاولات غير الجدية لترجيح كفة التوازن العسكري تعتبر خطرة. فهو يقول "ما يبدو لي فكرة سيئة هو اختيار الوقوف مع جانب ضد آخر. الناس الذين تروق لهم هذه الفكرة لا ينظرون إلى بعيد. إذا كنت تدعم هذا الطرف أو ذاك فإنك لا تجلب الحرب الأهلية إلى نهايتها إلا إذا كنت تتدخل وعلى استعداد لوضع القوات على الأرض، وأنا لا أرى أي شهية للقيام بذلك. وإلا فإن الحرب الأهلية ستستمر وسينتهي بنا الأمر إلى نزاع على غرار الصومال على شواطئ المتوسط". إن الوضع بعيد كل البعد عما كان عليه حين كانت الحشود تهتف وتهلل لقادة الناتو، مثل ديفيد كاميرون، في بنغازي عام 2011. وحتى داخل الحكومات، هناك اختلافات متزايدة بشأن ما يجب القيام به. وهناك انتقادات متزايدة بأن النهج الحالي يستغرق وقتا طويلا ويعمل على عرقلة العمل على مكافحة الإرهاب. في الوقت الراهن هناك دعم لمحادثات الأمم المتحدة. حتى القاهرة تظهر مزيدا من ضبط النفس. لكن باريس وروما، المنزعجتين من تهديد "داعش" المحتمل للقوات الفرنسية في مالي وعلى الساحل الإيطالي الذي يبعد نحو 250 ميلا إلى الشمال، تتجهان أقرب إلى الموقف المصري من دون التبني الرسمي للضربات الجوية. وتواصلان الاحتفاظ بأمل نجاح المحادثات. ويقول أحد المسؤولين الفرنسيين "يبدو أننا في بداية عملية، لكن يجب أن تكون عملية سريعة، أو أنها ستموت. لا يمكن لنا أن ننتظر ستة أشهر لتشكيل حكومة وحدة وطنية، ينبغي لنا معالجة تهديد "داعش" بطريقة أكثر إلحاحا بكثير". ويشعر مسؤول إيطالي كبير بالإحباط من أن المجتمع الدولي بقيادة الأمم المتحدة لا يزال "لا يأخذ في الحسبان الوضع على أرض الواقع". ومع "تدهور الظروف بسرعة"، يحذر من أن "داعش" تشن "حملة تجنيد" لجلب أعضاء من الميليشيات المتناحرة. كما حذر من أن الأخطاء التي ارتكبت في سورية - حيث أخذ ظهور "داعش" الغرب على حين غرة - يمكن أن تتكرر في ليبيا. وأضاف "إنها معركة ضد الزمن - أنا لا أتحدث عن أشهر ولكن أسابيع". قيادة روما مع ارتفاع ملف ليبيا إلى مكانة عالية على جدول الأعمال المحلي الإيطالي، تحقق إدارة رينزي خطوات أكثر جذرية. ولفترة وجيزة راودت روما فكرة استبدال شخص إيطالي بليون، لكن الفكرة لم تجد دعما يذكر في عواصم أخرى. ووسائل الإعلام الإيطالية مليئة بمسؤولين مجهولين يروجون لخطط تراوح بين الحصار البحري لليبيا إلى نشر قوات لحماية المنشآت الحيوية، بما في ذلك منشآت الطاقة الحيوية. ويقول ماتيا تولدو، من المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية: "ليبيا دولة مهمة جدا وقريبة جدا من إيطاليا على نحو لا يجوز معه رفض التدخل العسكري إذا ما كان ذلك ضروريا". المخضرمون في السلك الدبلوماسي البريطاني يشككون أيضا في سياسة "الحياد النشط" التي تنتهجها لندن ليبيا، مشيرين إلى اتصالات بين جهاديين وفجر ليبيا. وبعضهم ينادي بالعمل بشكل وثيق مع طبرق لوضع حد للطموحات السياسية للجنرال حفتر وتهدئة المخاوف من أن الغرب يسعى لإجبارهم على قبول حكومة إسلامية. في الوقت نفسه يشددون على الحاجة إلى تخفيف المخاوف من ميليشيات مصراتة التي يعتبرها حفتر عودة جديدة للقذافي. يقول دومينيك إسكويث، سفير المملكة المتحدة السابق لدى ليبيا، في أول انتقاد علني له لسياسة المملكة المتحدة منذ مغادرته وزارة الخارجية "على الرغم من أن الإسلاميين مكروهون إلى حد كبير، إلا أنهم تمكنوا من الحفاظ على صورة أنهم لاعبون مقبولون ومشروعون، مع أنهم ليسوا كذلك. لا بد لنا من استمالة الناس في مصراتة، وتهدئة أولئك الذين يشعرون بالقلق من أنك تقوم بتسليم ليبيا إلى الموالين للقذافي. بدلا من الحجر على حفتر ينبغي علينا الانخراط معه والتأثير فيه لقبول أولئك الذين لديهم وضع منتخب، بما في ذلك مصراتة".
مشاركة :