المعركة حول ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم

  • 3/24/2015
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

صدر أخيرا في القاهرة كتاب «النغم الشارد» المعركة حول ظاهرة الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، من تأليف الكاتب والأديب عبده جبير، وهو أحدث الكتب التي تتناول من زاوية جديدة مختلفة، ظاهرة الثنائي الشهير «إمام - نجم» أي ذلك المغني الشعبي الكفيف الذي اشتهر في السبعينات، ورفيق دربه الشاعر الغنائي الذي أصبح «أيقونة» من أيقونات حركة الاحتجاج السياسي في مصر لعقود. ويعتمد هذا الكتاب الصادر عن دار «آفاق» (في 191 صفحة من القطع الصغير) على ما تبقى مما سبق أن دونه وجمعه الكاتب من مذكرات وقصاصات صحف خلال الفترة التي عرفت بدايات نشاط الشيخ إمام ونجم، بعد هزيمة عام 1967 في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، ثم ما تبعها من أحداث صاخبة في بدايات حكم الرئيس السادات. يضع الكاتب تلك الظاهرة في سياق عصرها، أي في تلك الفترة الساخنة التي عرفت ظهور النقد السياسي اللاذع وانتشار النكات الشعبية، الأمر الذي سبب الكثير من الحرج لنظام عبد الناصر، فلجأ أولا كما يروي الكاتب تفصيلا، إلى محاولة «تحييد» الظاهرة عن طريق شراء المغني والشاعر الذي ارتبط به وأصبح يقيم معه في حجرة رثة من حي الغورية العتيق بالقرب من الجامع الأزهر، ويروي الكاتب كيف أرسل عبد الناصر وزير الإرشاد وقتذاك، محمد فايق، إلى منزل الشيخ إمام في تلك المنطقة الشعبية، وهناك عرض عليه الغناء في إذاعة «صوت العرب»، ويصور كيف تشكك كل من إمام ونجم في ذلك العرض الذي يأتي من السلطة التي يوجهون لها النقد اللاذع الساخر في الأغاني التي يكتب كلماتها نجم وينشدها الشيخ إمام، والتي كانت قد بدأت في الانتشار بشكل سريع بين الطلاب والمثقفين. ويروي الكاتب كيف عرض محمد عروق مدير إذاعة «صوت العرب» شيكا بمبلغ 10 آلاف جنيه على كل من إمام ونجم، ولكنهما رفضا. وهي الرواية التي شاعت بالفعل، وتناقلها الكثيرون، وكنت قد أبديت تشككي فيها في كتابي «الشيخ إمام في عصر الثورة والغضب» (الصادر عن مكتبة مدبولي عام 2010). وكنت أرى أن هذا المبلغ (10 آلاف جنيه) بمقاييس تلك الفترة من عام 1968 هو مبلغ «فلكي» يتجاوز كثيرا ما كان يمكن أن يحصل عليه مطرب مثل عبد الحليم حافظ من عائدات حفل غنائي يقيمه. وخصوصا أن الكاتب الراحل رجاء النقاش قال إنه كان شاهدا على مقابلة إمام - نجم بمحمد عروق، وإن المبلغ لم يتجاوز 50 جنيها! يقدم عبده جبير في كتابه وصفا دقيقا للحي الذي يقيم فيه الرجلان في إطار وصفه لأحياء القاهرة القديمة، ثم يتناول علاقتهما مع «محمد علي» الرسام التلقائي الشعبي الذي تحول من رجل يعمل في صياغة الذهب لدى تجار الذهب، إلى ضابط إيقاع للفرقة الصغيرة، ثم إلى رسام أيضا، ويسرد علاقة المثال الشعبي الموهوب محمود اللبان بالثنائي، وكيف كان يقيم في نفس الحي العريق، ويتطرق بالتفصيل إلى علاقة الشيخ إمام بقراءة القرآن في البداية ثم كيف تعلم العزف على العود والغناء على يدي الشيخ درويش الحريري. ويسرد المؤلف تطور حياة الشيخ إمام ونجم، استنادا إلى سلسلة من الحوارات المكثفة التي سجلها معهما، كما يعتمد على معاصرته للكثير من أحداث الفترة، ومنها على سبيل المثال، الحفل الذي أحياه الشيخ إمام مع نجم ومحمد علي في نقابة الصحافيين المصريين عام 1968، وكنت أفضل أن يسمي جبير كتابه «النغم الصامد» فهو أكثر تعبيرا عن الظاهرة. يتابع الكتاب تجارب السجن التي مر بها الاثنان سواء في قضايا ملفقة أو في إطار التعقب السياسي للمعارضين، في البداية بعد أن فشلت محاولة تدجين الرجلين وإغرائهما بالمال والشهرة والانتشار الجماهيري عن طريق الإذاعة الرسمية، ثم عقابا لهما على التطاول على الذهاب إلى الجامعة، وهو ما اعتبر تحريضا سياسيا في المقام الأول. من ضمن الأفكار السائدة المنتشرة والمستقرة أن الشيخ إمام اعتمد في كل ما أنشده وغناه على أشعار كتبها أحمد فؤاد نجم، الذي عرف بموهبته الكبيرة في استخدام العامية المصرية، إلا أن عبده جبير يؤكد أن الشيخ إمام غنى لخمسة وثلاثين شاعرا ومؤلفا للزجل والأشعار الشعبية، سواء من المصريين أو غير المصريين، من تونس وفلسطين. ولعل الهجمة المدفوعة على الشيخ إمام تحديدا، وكونها ظهرت في عصر عبد الناصر بعد هزيمة 67 بسبب خطورة النغمة التحريضية الساخطة التي كان المستمعون يتجاوبون معها في تلك الأغنيات، استمرت لفترة طويلة إلى ما بعد وفاة الشيخ إمام عام 1995 عندما كتب محمود السعدني مقاله الشهير في مجلة «روز اليوسف» بعنوان «أكذوبة الشيخ إمام» يهجو فيه المغني الكفيف بعد رحيله ويصفه بالأكذوبة، ويستنكر أن يكون البعض قد شبهه بسيد درويش، ويقول إنه لم يكن يجيد لا التلحين ولا الغناء. ومن ضمن الوثائق المهمة التي يضعها المؤلف في الكتاب مقال طويل للمؤلف الموسيقي سليمان جميل، الذي نشره محمد حسنين هيكل في «الأهرام» في تلك الفترة من أواخر الستينات، ينهال فيه قدحا وذما على الشيخ إمام وأغانيه وصوته وموسيقاه ويصمه بأنه من «المدمنين»، وأنه يغني لجمهور الحاضر بأسلوب الماضي. ويبدو المقال كما لو كان بلاغا للسلطة التي سرعان ما ستعتقل أجهزتها المغني والشاعر وتضعهما وراء القضبان. لكن القاضي يطلب أن يستمع إلى سبب «عملي» للقبض عليهما فيسمعه أحمد فؤاد نجم كلمات الأغنية الرمزية الساخرة الحزينة «بقرة حاحا» فيأمر القاضي على الفور بإطلاق سراحهما! ويأتي مقال أستاذ الفلسفة المثقف الكبير الدكتور فؤاد زكريا بلسما شافيا حينما يكتب أفضل من أفضل ناقد موسيقي، تحليلا فنيا رفيعا للظاهرة، لنوع الغناء، لمغزاه، لقوته وطاقاته اللحنية والصوتية وكيف أن أداءه هو «مزيج من الإنشاد والدعوة أو الخطابة وصيحات الحماسة والإعجاب وهمسات الاستنكار وغمزات اللوم والتقريع». الكتاب، بشكل عام، رحلة ممتعة في تاريخ ظاهرة فنية لعبت دورها، ولا تزال، في إطار الظاهرة السياسية، بعيدا عن القنوات الإعلامية الرسمية.

مشاركة :