قلعة السلطان محمد الفاتح في إسطنبول: شموخ العمارة الدفاعية في الحضارة الإسلامية

  • 3/25/2015
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

تطل على مضيق البوسفور بمدينة إسطنبول واحدة من أروع القلاع الحربية والدفاعية بأسوارها وأبراجها العالية، وهي قلعة السلطان محمد الفاتح الأسطورية التي تعرف باسم (قلعة روملي حصار)، وتعد من أهم معالم المدينة التاريخية التي مازالت تقف شامخة حتى اليوم، رغم مرور ما يقرب من ستة قرون على إنشائها. ولقد جاء بناء هذه القلعة تمهيداً لفتح القسطنطينية، وشارك في بنائها الوزراء والقادة والعسكر، ليتم تشييدها في زمن قياسي لا يتعدى الأربعة أشهر عام 1452م قبل فتح المدينة بسنة واحدة، على الرغم من أنها تحدّت تضاريس الموقع الخاص بها، على مضيق البوسفور، وهو الممر المائي الذي يربط البحر الأسود ببحر مرمرة، وكانت معجزة في العمارة الدفاعية من حيث توقيت الإنشاء والهندسة المعمارية وشموخ البناء. السلطان وقصة الفتح حكاية هذه القلعة ترتبط بقصة فتح القسطنطينية على يد السلطان محمد الفاتح، فقد أخذ هذا السلطان، بعد وفاة والده، يستعد لتتميم فتح ما بقي من بلاد البلقان ومدينة القسطنطينية حتى تكون جميع أملاكه متصلة لا يتخللها عدو مهاجم أو صديق منافق، فبذل بداية الأمر جهوداً عظيمة في تقوية الجيش العثماني بالقوى البشرية حتى وصل تعداده إلى قرابة ربع مليون جندي، وهذا عدد كبير مقارنة بجيوش الدول في تلك الفترة، كما عنى عناية خاصة بتدريب تلك الجموع على فنون القتال المختلفة وبمختلف أنواع الأسلحة التي تؤهلهم للغزو الكبير المنتظر، واعتنى بإعدادهم إعداداً معنوياً قوياً وغرس روح الجهاد فيهم، وتذكيرهم بثناء النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، على الجيش الذي يفتح القسطنطينية، وعسى أن يكونوا هم الجيش المقصود بذلك، مما أعطاهم قوة معنوية وشجاعة منقطعة النظير، كما كان لانتشار العلماء بين الجنود أثر كبير في تقوية عزائمهم. وقد أراد السلطان، قبل أن يبدأ في فتح القسطنطينية أن يُحصّن مضيق البوسفور حتى لا يأتي لها مدد من مملكة طرابزون، وذلك بأن يُقيم قلعة على شاطئ المضيق في أضيق نقطة من الجانب الأوروبي منه مقابل قلعة أناضولو حصاري في الجانب الأناضولي أو الآسيوي من مضيق البوسفور، والتي بناها السلطان العثماني بايزيد الأول في منتصف تسعينيات القرن الرابع عشر كجزء من استعداداته لحصار مدينة القسطنطينية. ولمّا بلغ إمبراطور الروم هذا الخبر أرسل إلى السلطان سفيراً يعرض عليه دفع الجزية التي يُقررها، فرفض الفاتح طلبه وأصر على البناء لما يعلمه من أهمية عسكرية لهذا الموقع، حتى اكتملت قلعة عالية ومحصنة، وصل ارتفاعها إلى 82 متراً، وأطلق عليها اسم (قلعة روملي حصار)، وأصبحت القلعتان متقابلتين، ولا يفصل بينهما سوى 660 متراً، وتتحكمان في عبور السفن من شرقي مضيق البوسفور إلى غربه، وتستطيع نيران مدافعهما منع أية سفينة من الوصول إلى القسطنطينية من المناطق التي تقع شرقها. تاريخ القلعة يعود تاريخ بناء هذه القلعة إلى سنة 856هـ (1452م)، عندما وصل السلطان محمد الفاتح على رأس قوة قوامها خمسون ألف شخص، إلى الموقع الذي توجد به القلعة، وذلك لقطع قناة البحر الأسود على بيزنطه، وبالتالي قطع إعاشتها من هناك، ومنع الإمدادات عن البيزنطيين أثناء حصار المدينة، والسيطرة على قناة إسطنبول (البوسفور) بين الأناضول والروميلي. وحدد السلطان بنفسه مكان القلعة في الطرف الأوروبي من إسطنبول، قريب من جسر محمد الفاتح الذي يربط بين الطرف الآسيوي والطرف الأوروبي، واستعان بالمواد التي أُتِيَ بها من الأناضول، كما أُتِيَ بالخشب من (أرغلي) و(قره دنيز) و(أزمير)، وقام بالإشراف على أعمال البناء، التي قام بها ما بين ثلاثة إلى خمسة آلاف عامل، وعشرة آلاف مساعد، ونجح في إنهاء العمل خلال أربعة أشهر. وعندما كان العمل جارياً في القلعة، كان السلطان محمد الفاتح يقوم بإضافة بعض الملاحق إلى قلعة الأناضول، وترميم بعض استحكاماتها، ووضع المدافع والعساكر فيها، وبذلك تمكن من القناة في أضيق محل منها من الجانبين. اعتراض بيزنطي مما يذكر حول إنشاء هذه القلعة أن الإمبراطور البيزنطي أرسل وفداً إلى السلطان محمد الفاتح للاحتجاج على إنشاء القلعة، فذكر لهم السلطان أن هذا تدبير أمني، مشيراً إلى أن موقع القلعة لا يتبع بيزنطة، ولا الجنوبيين، وأنه نقطة عبور، تابعة للأتراك وحدهم، يضاف إلى ذلك، أن توفير الأمن اللازم للقناة، سوف يقضي على قراصنة رودس والبندقية وقاتالان وغيرهم ممن يضر بالتجارة التركية والبيزنطية، على حد سواء، لذلك ينبغي أن يسر الإمبراطور بهذا العمل، مشيراً إلى أن مراد الثاني لما أراد العبور إلى الروميلي عبر قناة جنق قلعة (الدردنيل)، فإن الأسطول اللاتيني منعه من ذلك، وأنه اضطر إلى عبور قناة إسطنبول بصعوبة شديدة. ولما رأى السلطان محمد الفاتح إصرار الوفد على موقفه الرافض لبناء القلعة، قال لأعضائه: إن الأماكن التي تصل إليها القوة التي أملكها، لا تصلها آمال إمبراطوركم، وإنني إذ أسمح هذه المرة بعودتكم، فإذا تكرر مجيء وفود منكم، فإنني سوف أقشط جلود أعضائها وهم أحياء، وبذلك طردهم من مجلسه، ويبدو أن الإمبراطور أصبح يتعقل ويفهم الوضع، بل إن هناك رواية تشير إلى أنه بات يرسل الأكل إلى العمال العاملين في عملية البناء، بغية التسكين من روع السلطان. تحصين القلعة عندما اكتملت القلعة، وضع فيها المحافظون، ونصب فيها الكثير من المدافع بعيدة المدى والأحجام والتي تستهدف أي سفينة على مدى بعيد، وأقام فيها أربعمائة جندي مختار، بقيادة (فيروز آغا) الذي كان السلطان محمد الفاتح يعتمد عليه كثيراً، وأمره بتوقيف جميع السفن المارة بالقناة وإجبارها على تحية السنجق والقيام بتفتيشها، وتحصيل رسم مناسب على حمولتها، وإغراق أي سفينة تخالف ذلك، وكان أن رفضت إحدى سفن البندقية التوقف بعد أن أعطى العثمانيون لها عدداً من الإشارات، فتمّ إغراقها بطلقة مدفعية واحدة. عمارة القلعة تقع القلعة على أضيق الحدود بين الساحل الأناضولي والساحل الروملي، والتي تقدر المسافة بينهما بـ(700) متر، وقد أشرف على عمارتها المعماري (مصلح الدين)، وبنيت على شكل اسم النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، للتفريج عن المسلمين بأوامر من السلطان. وهي تتكون من ثلاث زوايا وثلاثة أبراج، ويتحكم برجان منها في البحر، وواحد في البر، والبرج المضلع الواقع بجانب البحر، بناه الوزير الأعظم (خليل باشا جاندارلي)، والبرج المطل على قرية (حصار) بناه (صاروجه باشا)، والبرج المطل على (حي ببك) بناه (زاغانوس محمد باشا)، ويروى أن هؤلاء كانوا يعملون بأيديهم في البناء حتى يصبحوا مثلاً يحتذي به العمال. وأما جدران القلعة فيبلغ سمكها ما بين 20 إلى 25 قدماً، ويبلغ سمك جدران الأبراج المغطاة بطبقة من الرصاص المسكوب، ما بين 30 إلى 35 قدماً، في حين يبلغ ارتفاع أسوارها 82 متراً. أسلحة الفتح لعبت هذه القلعة الحصينة دوراً كبيراً في تقوية جيش الفتح، والتمهيد لسقوط القسطنطينية وسرعة فتحها، والذي تم بعد عام واحد من بناء القلعة. هذا إلى جانب عناية السلطان الخاصة بجمع الأسلحة اللازمة لتمام الفتح، ومن أهمها المدافع التي أخذت اهتماماً خاصاً منه حيث أحضر مهندساً مجرياً يدعى (أوربان) كان بارعاً في صناعة المدافع، فأحسن استقباله ووفر له جميع الإمكانيات المالية والمادية والبشرية، وتمكن هذا المهندس من تصميم وتصنيع العديد من المدافع الضخمة، كان على رأسها (المدفع السلطاني) المشهور، والذي ذكر أن وزنه كان يصل إلى مئات الأطنان، وأنه يحتاج إلى مئات الثيران القوية لتحريكه، وقد أشرف السلطان بنفسه على صناعة هذه المدافع وتجريبها. ويُضاف إلى هذا الاستعداد ما بذله محمد الفاتح من عناية خاصة بالأسطول العثماني، حيث عمل على تقويته وتزويده بالسفن المختلفة ليكون مؤهلاً للقيام بدوره في الهجوم على القسطنطينية، تلك المدينة البحرية التي لا يكمل حصارها دون وجود قوة بحرية تقوم بهذه المهمة، وقد ذُكر أن السفن التي أعدت لهذا الأمر بلغت أكثر من أربعمائة سفينة، بينما قال آخرون إن هذا الرقم مبالغ فيه وأن عدد السفن كان أقل من ذلك، حيث بلغت مائة وثمانين سفينة في الواقع. وعمل السلطان قبل هجومه على القسطنطينية على عقد معاهدات مع أعدائه المختلفين ليتفرغ لعدو واحد، فعقد معاهدة مع إمارة غلطة المجاورة للقسطنطينية من الشرق ويفصل بينهما مضيق القرن الذهبي، كما عقد معاهدات مع جنوة والبندقية وهما من الإمارات الأوروبية المجاورة، ولكن هذه المعاهدات لم تصمد حينما بدأ الهجوم الفعلي على القسطنطينية، حيث وصلت قوات من تلك المدن وغيرها للمشاركة في الدفاع عن المدينة التي سقطت في نهاية الأمر في أيدي السلطان الفاتح وجيشه. تغير دور القلعة ظلت هذه القلعة الشامخة تقوم بدورها الدفاعي والتحصيني كمعقل من المعاقل الحربية، إلى أن تغير دورها في المائتي سنة الأخيرة، لتستخدم كسجن للسجناء الانكشارية والعسكريين وغير العثمانيين وأسرى الحرب من مناطق الإمبراطورية العثمانية المختلفة. ثم تعرضت القلعة إلى حريق عام 1904م، وأعيد ترميمها وإصلاح ما تهدم منها، وفتحت في عهد قريب كمعلم سياحي مهم يستقطب الكثير من السياح الذين تستهويهم عظمة العمارة الإسلامية وضخامتها وشموخها. وأصبحت منذ ذلك الحين تابعة لوزارة السياحة التركية. القلعة وخطر الانهيار وها هي القلعة التي أنشئت من أجل فتح القسطنطينية، ولعبت دورها العظيم في أحداثه، تقف اليوم شامخة بأبراجها وأسوارها على مضيق البوسفور بعد ما يقرب من ستة قرون على تشييدها، لتشهد على عظمة وشموخ العمارة الدفاعية في الحضارة الإسلامية، والدور الذي قامت به تلك العمائر على مر العصور، باعتبارها أهم وأبرز المعالم الأثرية في المدينة. ولكن يظل هذا الأثر التاريخي العملاق في حاجة إلى صيانة وترميم ليظل واقفاً بشموخه وقوته وروعة عمارته تشاهده الأجيال تلو الأجيال، خصوصاً وأن القلعة تواجه هذه الأيام خطر الانهيار بسبب الأضرار التي تعرضت لها الأبراج والأسوار، فقد لاحظ الخبراء والمتخصصون في المتاحف والآثار منذ عام وجود شروخ وانزلاقات في جسم القلعة وأسوارها تهدد بانهيارها، وأبلغوا المسؤولين بما شاهدوه، مما دفع السلطات التركية إلى إلغاء كل الأنشطة الثقافية والعروض الموسيقية المقرر إقامتها داخل أسوار القلعة، جراء المخاطر التي تواجهها. وأكد تقرير إدارة الحماية والتنفيذ والمراقبة التابعة لرئاسة دائرة التخطيط العمراني وشؤون المدينة ببلدية إسطنبول، أن حالة القلعة يرثى لها، ولا توجد أية تدابير أمنية في جنبات المدخل الرئيسي، حيث تساقطت بعض الصخور الكبيرة، وتحرك البعض الآخر عن مواضعه، كما أن الجدران المحيطة بالسلالم المؤدية إلى الأبراج والممرات الآمنة أصبحت ضيقة جداً، وليس حولها درابزينات لحماية الزوار من السقوط، بالإضافة إلى ممرات التنزه ما بين الأبراج التي أصيبت بأضرار بالغة. وذكر التقرير أنه لم يتم حتى الآن وضع أية لافتة أو حاجز يمنع الصعود إلى أبراج القلعة على الرغم من تجريم ذلك نتيجة الضرر البالغ الذي تعرضت له مدارج السلالم، إذ تكسر بعض أحجارها وضاع البعض الآخر، كما أن بعض أحجار الفخار الموجودة في الأبراج تحرك من أماكنه، وكذلك النباتات والأشجار النامية تخلخل الصخور والأحجار من مواضعها وذلك يهدد حياة الزوار والممتلكات العامة المحيطة بالقلعة.

مشاركة :