يحاصرني أبي! يصنع مني رجلاً لا يحتمل الأسئلة، رجلاً يضيق ذرعاً حين يتعلق الأمر بضرورة الإجابة على استفهام ما، على مواجهة حقيقة لا يمتلك مفاتيحها، على التعاطف مع حكاية لا يمتلك القدرة على حل عُقدها، رجلاً يعيش بفوضى طفل في الخامسة. تصيبني مراقبته بالجنون، يختلس إلي النظر من خلال كتاب كبير يغطي ثلث وجهه، يرخيه قليلاً، يغيب سارحاً في وجهي الفاغر فاه أمام التلفاز، لا أبدي اهتماماً لنظراته وهي تعاتبني على إهدار الوقت الذي يقدسه، ثم يتجاهلني وعلى وجهه أمارات الندم، حين أنتبه لتكات ساعته تناديه إليها، يقربها إلى عينيه كمن يعتذر على إضاعة الوقت اللازم لقراءة سطرين وشطر من قصيدة، ويكرر فعل ذلك مع كتابه، يشمه بهدوء ويتنهد. كنت العقرب المعطوب في ساعته، الفوضى التي لا يستطيع مواجهتها، الحائط الأكثر ضعفاً في منزله، بالكاد أقدر على حمل خربشة بالقلم تشبه ساعة على معصمي منذ أيام الصبا. كنا نجلس متقاربين تحت سقف واحد، أنا أبالغ في فوضاي وهو يبالغ في تنظيم كل شيء حتى أنفاسه، كان يجلس كل ليلة في الصالة مطولاً يقرأ كتاباً أو يشدو بقصيدة ألفها للتو، ينظر إلى ساعته مجدداً، انتهى الوقت، يقف ليرتب فوضاه المنظمة ويقفل أزرار قميصه بهدوء ويتوجه للمطبخ ليساعد أمي قليلاً، عشر دقائق ونجتمع مجدداً على المائدة ذات الوقت منذ تسع وعشرين عاماً، يمتدح طعام أمي الذي لم يتغير ولو قليلاً ثم يباشر بالحديث متوجهاً بسؤاله الروتيني نحوي، تعلق اللقمة في حلقي: حمد، ما الذي تنوي فعله اليوم؟ لا شيء محدد كالعادة سأخرج مع أصدقائي. يسألني بذات النغمة الهادئة: ما الذي تنوون فعله؟ هل اتفقتم على برنامج معين؟ سنفعل ما يتاح لنا، تعرف ذلك.. لا يمكن أن تضع خطة حين ترغب أن تستمتع! يفقد هيبته وكأني تطاولت على أقرب عقرب من قلبه، يشتاط غضباً ويبدأ محاضرته التي لا تنتهي، يناقش مشواري الدراسي الذي انتهى بلا فائدة لأني قررت فجأة أن أعيش بفوضى دون أن أفكر ولو قليلاً.. ما الذي أنوي فعله غداً؟ ما الذي أنوي تحقيقه في حياتي؟ ما الذي أنوي دراسته؟ ما نوع العمل الذي أخطط أن أجعله كل حياتي؟ يخبرني بكل قسوة كم أصبحت حملاً ثقيلاً، أنه لا يفكر باحتمالي أكثر؟ والأقسى من ذلك أنه ينوي التخلص مني، كنت قلقاً من أن يكون صادقاً في ما يزعم، أنه حدد وقتاً لطردي من المنزل، شيء مكتوب في دفتر يومياته وفق ساعة ويوم محدد. أحمل نفسي كل ليلة المزيد من مشاعر البغض، أحقد عليه لأنه يجعلني أفكر في عجزي، أواجه فشلي الذي يبقيني تحت سطوته، كيف انتهى بي الأمر إلى هنا، في غرفتي ألعن طبيعتي الفوضوية، كيف لا أستطيع وفق معايير نضجي تحديد ما أريده، اختيار ما اشتهيه، عمل ما أجيده، وفي وقت ما قتلني صُداع مقيت، توجهت للمطبخ، وجدته أبي، يغلف شيئاً ما، تجاهلته وشربت من الماء ما يكفي ليجعل فمي مشغولاً بافتعال جرم السكوت، اقترب مني ووضع بالقرب مغلفاً يكاد يكون كبيراً وابتسم: عليك أن تؤمن وتعمل بما يجب أن يعمل، لا تؤجل فعل ذلك. لم يكن لتدخله في حياتي حد، لم يكن لتلك (الأجندة) الفارغة التي أهداني إياها مغلفة بأحلامه، أن تصنع مني رجلاً ذا علاقة وثيقة بساعة لا يجيد قراءتها، أن تجعل للوقت قيمة عندي، كيف يمكن أن يكون وأنا نفسي لا قيمة لي؟، أراقب أبي ونجاحاته وأصغر كل يوم أكثر، يقتلني بتنظيمه فأحاول تصليح ذلك العطب، تندفع الأفكار إلى رأسي، أحاول فرزها لكنها أقوى مني، تبتلعني وأعود للاشيء.. أغضب عجزاً، أبعثر أوراق الأجندة، أختار تاريخاً عشوائياً وأكتب بوضوح، (سأصلي عليك في هذا اليوم وهذه الساعة). أبارك انتصاري على شاغر الورق، أبتسم وأخلد للنوم. الآن تمر حياتي كفيلم لم يمنتج بعد، تفسده بشاعة الصور ورداءتها، أتذكرني وأنا أقف بالقرب من جسده الميت وأبكي، (لم أخطط لذلك يا أبي، سامحني) أنزع ساعته التي توقفت عن العد للتو، أغطيه، أكتب رسالة قصيرة، يمكن للوقت أن يجعلها موجزة ودقيقة.. (انتقل اليوم والدي صالح الساعاتي إلى رحمة الله وسيصلى عليه اليوم في جامع السيد الساعة السابعة مساء من يوم الجمعة).
مشاركة :