هل اللغة وطن، كما يريدها الكثيرون؟ يمكنها أن تكون كذلك من الناحية الرمزية. لكن الأمر ليس بهذه السهولة. النخبة المغاربية التي تكتب باللغة الفرنسية تعاني من وضعيتين قاسيتين، فهي أجنبية في فرنسا، أي في بلد الكتابة وربما الولادة والمنشأ، وغريبة في أوطانها الأصلية، أو أوطان أجدادها الأوائل. عندما تصدر رواية مغاربية بالفرنسية، في فرنسا، توضع في أغلب الأوقات في المكتبات، في زاوية الآداب الإفريقية، حتى ولو كان الكاتب من أصول لبنانية مثل أمين معلوف. أو في زاوية الشرق الأوسط حتى ولو كان المؤلف مغاربيا. وأحيانا في رف الآداب الأجنبية مما يعني أن الرواية توضع في نفس الكتاب المترجم من لغة أجنبية نحو الفرنسية، على الرغم من أن كتابها فرنسيون بالتجنس أو باللغة. مع أن الكثير من هؤلاء الكتاب المغاربيين يتمنون أن توضع رواياتهم ضمن رفوف الكتب الفرنسية مثل كتابات إيطالو كالفينو ذي الأصول الإيطالية، وميلان كونديرا ذي الأصول التشيكية، وتودوروف البلغاري المنبت، والكسيس ذي الأصول اليونانية، وكلهم يكتبون بالفرنسية. لأن هذا يمنح رواياتهم فرصة أن تصبح مرئية بشكل واضح. وضعها في تلك الزوايا يقلل من إمكانية رؤيتها واقتنائها، بل يساهم أحيانا في دفنها. نفس الكتّاب، لا يجدون أي اهتمام في بلدانهم الأصلية. فهم يكتبون بلغة غير حيادية. لغة فرنسية مشبعة بالتاريخ الماضي إذ لا ننسى أن الدول المغاربية بقيت مدة طويلة تحت الآلة الاستعمارية، تجاوزت أحيانا القرن مثل الحالة الجزائرية. فأدبهم المكتوب بالفرنسية عليه أن يمر من خلال الترجمة العربية ليصل إلى قارئ تعرب بشكل جيد في النصف القرن الأخير من الاستقلال. الكاتبة الجزائرية الكبيرة آسيا جبار لم يسمع الكثير من القراء بها إلا عندما رشحت لنوبل، ومع ذلك لم يقرأوها لمحدودية الترجمة. عربيا ظلت اسما معلقا في الهواء، لا ترجمة لها في المكتبات. ترجمت جزئيًا في الستينيات في سوريا، وبعدها لم نسمع شيئًا يمت بصلة إلى ترجمة أعمالها إلا ما قام به الدكتور محمد يحياتن -يرحمه الله- الذي ترجم روايتها الأخيرة في تيه بيت والدي التي نشرت بالجزائر ولم توزع عربيا. حالة تراجيدية حقيقية. لا هم في لغة الآخر بشكل كامل، ولا هم في لغة أجدادهم وترابهم لأنهم لا يعرفونها لأسباب تاريخية معروفة. وهذا أفقدهم إمكانية التوصل. هذا يظهر مرة أخرى مأسوية الثقافة العربية التي لم تجد بعد طريقًا ومنفذًا لمسالكها الصعبة التي تتخبط فيها. لا تعرف كيف تستثمر كتابًا جاهزين للدفاع عن مصالحها. كلما برز كاتب كبير يفترض مسبقًا احتضانًا حقيقيًا إذ يعتبر صوتًا نادرًا يمكنه أن يخترق الجدران المضروبة على العالم العربي. من يمنع هذه الأرض التاريخية، وهذا البركان المشتعل داخليًا، من القفز نحو القرن الحادي والعشرين، في عالم يتصحر ويتفكك كل يوم أمام أعيننا بدون أن يتمكن العربي من التحرك أو تغيير الصورة النمطية التي يعاني منها حتى في دهاليز اللغة والكتابة؟.
مشاركة :