أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية يوم 18/5/2018 الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي 5+1 مع إيران، ولجأت إلى نظام عقوبات صارم، تمثل في مطالبة مشتري النفط الإيراني، في أبريل الماضي، بوقف مشترياتهم اعتبارًا من أول مايو، وإلا سيواجهون عقوبات، في خطوة تهدف إلى خنق إيرادات طهران من النفط، الأمر الذي أعاد الوضع الأمني لمنطقة الخليج إلى ما كان عليه قبل الاتفاق، خاصة بعد التحركات العسكرية الأمريكية في المنطقة، المتمثلة في تحريك حاملة الطائرات الهجومية الأمريكية «إبراهام لينكولن» من البحر المتوسط إلى منطقة الخليج العربي، بعد تقارير استخباراتية أمريكية عن هجمات إيرانية محتملة على القوات الأمريكية في العراق وسوريا واليمن، وتنفيذ عمليات عبر وكلاء إيران في منطقة باب المندب، وذلك ردًّا من طهران على نظام العقوبات الأمريكي المشار إليه. ويأتي التصعيد من جانب إيران استجابة لعاملين أساسيين: الأول: محاولة النظام الإيراني تجميع الشعب حوله، وتجاوز موجات الغضب العارمة التي تعم الشارع ضده وزادت حدتها في 2018. جراء تفشي الفساد وسوء الإدارة الاقتصادية، وتبديد موارد البلاد في مغامرات سياسية في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، والتدخل في الشؤون الداخلية لدول أخرى، واستغراقه في مشروعات تفتقر إلى الجدوى، الغرض منها إثراء مجموعة من الأشخاص المرتبطين بالنظام. وكشف الفريق الاقتصادي السابق للرئيس حسن روحاني في بداية 2018 فقدان أكثر من 30 مليار دولار من أموال الدولة في تلاعب في الحسابات المصرفية خلال 10 شهور، وأدى سوء الإدارة الاقتصادية إلى شح في المياه وإعادة توجيه تدفقها إلى المناطق التي تقطن فيها نخب النظام وحرمان المناطق الأخرى منها، ومن ثم هجرة مئات الآلاف من المزارعين من بيوتهم ومزارعهم وانضمامهم إلى الاحتجاجات المنتشرة في المدن. أما العامل الثاني: فهو سعْي النظام الإيراني للالتفاف على الشروط الأمريكية التي اقترنت بخروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وهي: إنهاء نشر الصواريخ الباليستية والصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، وإنهاء دعم إيران للجماعات الإرهابية في الشرق الأوسط، بما فيها حزب الله وسحب القوات الإيرانية من جميع أنحاء سوريا، وإنهاء دعم طالبان والإرهابيين الآخرين في أفغانستان، وعدم تقديم مأوى لقادة القاعدة، ووقف دعم المليشيات الحوثية، والعمل على تسوية سياسية في اليمن، واحترام سيادة الحكومة العراقية والسماح بنزع سلاح المليشيات الشيعية، ووقف تهديد إيران لجيرانها، وإطلاق سراح جميع المواطنين الأمريكيين ومواطني الدول المتحالفة مع الولايات المتحدة المسجونين في إيران. وقد وجد النظام الإيراني أن هذه الشروط تقف أمام مشروعه التوسعي الإقليمي، فاتخذ من ذريعة العقوبات الأمريكية مناسبة لعرض شروطه حتى يظل باقيا في الاتفاق النووي، وأبرز هذه الشروط: عدم إثارة الملف الصاروخي والأنشطة الإقليمية الإيرانية؛ أي أن إيران اتخذت من رفع العقوبات الاقتصادية عليها بعد توقيع الاتفاق النووي في 2015. فرصة لزيادة نشاطها الإقليمي، فإذا كان الاتفاق النووي يوقف أنشطة تصنيع السلاح النووي، فإنه ينبغي ألا يكون على حساب مشروع إيران التوسعي. وقد اعترض على الانسحاب الأمريكي الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، ودول أخرى ليست طرفًا في الاتفاق، واتخذت الدول الموقّعة على الاتفاق موقفًا مغايرًا بشأن العقوبات، وفي مقدمتها العقوبات ضد قطاع النفط أهم قطاعات الاقتصاد الإيراني، والعقوبات على التعاملات الإيرانية بالدولار الأمريكي، كما استمرت هذه الدول في بذل محاولات للتقريب بين الجانبين الإيراني والأمريكي للإبقاء على الاتفاق النووي حيًّا، إلا أن التصرفات الإيرانية قد تدفع الدول الأوروبية الأطراف في الاتفاق إلى التلويح بانضمامها إلى نظام العقوبات الأمريكي. وكان قرار الرئيس الأمريكي ترامب الانسحاب من الاتفاق النووي، يأتي متسقًا مع نهجه منذ اليوم الأول له في البيت الأبيض، ومتسقًا أيضًا مع ما أعلنه أثناء حملته الانتخابية، حيث كان يصف الاتفاق النووي بالكارثي، فترامب يرى أن الاتفاق عزّز من الطموح النووي الإيراني من امتلاك السلاح النووي، وتحقيق ذلك بشكل قانوني، وأنه منح الديكتاتورية الإيرانية شريان الحياة السياسية والاقتصادية عبر رفع العقوبات المفروضة عليها، والتحرر من الضغوط المحلية الناتجة عن فرض هذه العقوبات، ومعاناة الاقتصاد الإيراني منها، فضلاً عن أن هذا الاتفاق لم يتعرض لتطوير منظومة الصواريخ الباليستية ودورها المزعزع للاستقرار والأمن في منطقة الشرق الأوسط. ويخشى البعض من أن الإجراء الأمريكي بالانسحاب يعطي إيران ذريعة لتقويضه، والقيام علنًا بإعادة تخصيب اليورانيوم والشروع في بدء إنتاج قنبلة نووية، ما يهدد المحاولات الدولية لمنع الانتشار النووي، فضلاً عن تأجيج أزمات مشتعلة في الخليج والشرق الأوسط، وتصعيد الحروب بالوكالة القائمة في عدة مناطق، كما يعطي ذريعة لإسرائيل للقيام بضرب هذه المنشآت النووية الإيرانية استباقًا لمحاولة إيران تملُّك سلاح نووي، والمتضرر الأساسي من هذا التصعيد دول الخليج العربية التي ستكون أراضيها ومنشآتها الاقتصادية ومواردها ساحة في خضم هذا الصراع، ولطالما اتخذت إيران من تهديدات غلق مضيق هرمز ومضيق باب المندب أساليب للابتزاز. ربما كان الهدف من إجراء ترامب هو إعادة التفاوض حول اتفاق نووي جديد، أو تعديل الاتفاق القائم؛ للحد من نزعة إيران التوسعية، وكبح طموحها الإقليمي، وذهب في ذلك إلى ممارسة أقوى الضغوط على اقتصاد إيران المتراجع، بفرض مجموعة عقوبات على حزمتين تضمنان إعادة فرض العقوبات بالكامل، ما يعيد العلاقات الأمريكية الإيرانية إلى مربع التوتر والعداوة الذي كان قبل الاتفاق. وضمت الحزمة الأولى، التي أعلنها ترامب في أغسطس 2018: شراء الدولار الأمريكي، وتجارة الذهب والفضة والمعادن النفيسة، وتوريد معادن إلى إيران، وعدم تمكين إيران من إجراء صفقات كبيرة بالريال الإيراني، ووقف التعاملات التي تخص سندات ديون سيادية لإيران. أما الحزمة الثانية، التي أعلنها في نوفمبر 2018. فقد طالت قطاع النفط والمواد النفطية الإيرانية وقطاع الطاقة الإيراني وخدمات التأمين والموانئ الإيرانية، ما يعني عزلة كاملة، وضغوطًا اقتصادية هائلة لا تستطيع إيران تحملها، والهدف من وراء ذلك هو جلبها لمائدة التفاوض من جديد، ولكن قوة المصالح الاقتصادية بين الدول الأخرى الموقِّعة على الاتفاق وإيران جعلها ترفض العقوبات، وتطلب من الإدارة الأمريكية إعطاءها الفرصة لرأب الصدع وتليين المواقف، ولكن إيران تدرك أن الهدف، هو حملها على التفاوض. ومن السيناريوهات المحتملة لهذا الصراع: الأول: قيام إسرائيل بإجهاض المشروع النووي الإيراني، عن طريق قصف المنشآت النووية الإيرانية، وإذا كانت الإدارة السابقة قد حالت بين إسرائيل وقيامها بضربة إجهاضية للمشروع النووي الإيراني، فإن الإدارة الأمريكية الحالية قد تجد أن هذا الحل الجراحي هو الأنسب. الثاني: يتمثل في الرفع الجزئي لبعض العقوبات مقابل تنفيذ إيران وبالتدريج الشروط الأمريكية، كتلك المتعلقة بالبرنامج النووي، مثل تفتيش صارم من الوكالة الدولية للطاقة الذرية، والتوقف عن أنشطة تخصيب اليورانيوم، بحيث يمكنها رفع بعض العقوبات عنها، خاصة المتعلقة بالتعاملات الدولارية وقطاع النفط، وغيرهما من إمكانات مالية تخفف من موجات غضب الشارع الإيراني الذي يعاني من ضغوط اقتصادية. الثالث: وقف التصعيد المتبادل بين الجانبين، في ظل مفاوضات قد تكون جارية بشكل سري، بواسطة أوروبية أو إقليمية، تؤدي إلى إعادة ملف الاتفاق النووي إلى مائدة المفاوضات من جديد، لجعله أكثر إحكامًا، وشموله البنود التي وجد ترامب أنها غير موجودة فيه، كتلك المتعلقة بتطوير الصواريخ الباليستية، وهذا السيناريو يدفع إليه أيضًا أن أيًّا من الطرفين لا يرغب في الحرب، التي إن نشبت سيخسر الجميع، والأكثر تضررًا دول الخليج العربية، وفي ظل مناخ دولي لا يرغب في زيادة الأزمات القائمة، وقد يكون هذا السيناريو هو الأقرب للتحقق.
مشاركة :