عمق التعبير وجمال التصوير /18 ...«اثَّاقلتُم إلى الأرض»...

  • 5/24/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

نبدأُ بما انتهى به المقالُ السابق إذ للغة العربية خصائصُ جمّة في الأسلوب والنحو ليس من المُستطاع أن يُكتشف له نظائرُ في أي لغة أخرى، وهي مع هذه السعة والكثرة أوجز اللغات في إيصال المعاني، وفي النقل إليها، يبيّن ذلك أن الصورة العربية لأيّ مثلٍ أجنبيّ أقصر في جميع الحالات، وقد قال الخفاجي عن أبي داود المطران - وهو عارف باللغتين العربية والسريانية - إنه إذا نقلت الألفاظ الحسنة إلى السرياني قبُحت وخسّت، وإذا نُقل الكلام المختار من السرياني إلى العربي ازداد طلاوةً وحُسنًا، وإن الفارابي على حقّ حين يبرّر مدحه العربية بأنها من كلام أهل الجنّة، وهو المنزّه بين الألسنة من كل نقيصة، والمعلّى من كل خسيسة، ولسان العرب أوسط الألسنة مذهبًا وأكثرها ألفاظًا، والكلام يبقى تنظيري ما لم يسنده مثال، والأمثلة من القرآن أكبر من قدرة شخص واحد أن يُحصيها، ولكن ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جُلّه. في سورة التوبة الآية 38 يقول الحق سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثَّاقلتُم إلى الأرض، أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل) كثافة المعنى والصورة الجمالية والبلاغة كله مركوز في كلمة «اثَّاقلتم» فيها تكلف الثقل بدافع تحقيق شهوة في النفس، ولم يهبوا للنجدة وقد استُنهضوا لها، وهم بذلك اثاقلوا إلى الأرض وأخلدوا فيها واطمأنوا لها، في هذه الكلمة توبيخ شديد يناسب طبيعة العربي حينها الذي من أكبر العيوب ألا يهب للنجدة إذا استُنجد، فجاء التعبير في صميم النفسية العربية وهي غير «الثقل» التي تعني ثقيل في ذاته دون تكلف في ذلك، ولا علاقة للشهوة بالثقل، ثمّ يختم الآية بتقرير هذا الذي أخلدكم إلى الدنيا ما هو إلا متاع حقير إذا ما قُورن مع المتاع المُعد للذين ينفرون بخفة في سبيل الله، فهذه الكلمة بمفردها استقلّت برسم الصورة شاخصة في الخيال، وهذا غير متحقق لو كانت «تثاقلتم» إلى الأرض. وبنفس الدقة نقرأ قوله تعالى في الآية 72 من سورة النساء: (وإن منكم لمن ليُبَطِّئنّ فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا) تصوير التبطئة يُستشعر حتى في جرس الكلمة ذاتها، وحتى اللسان عند قراءتها يكاد يتعثر فيها ويقرأها ببطء وعلى حذر وهو يراقب حركات الحروف، وهي تتشابه في هذا الإيجاز الشديد مع الآية 28 من سورة هود: (قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتني رحمة من عنده فعُميت عليكم أنُلزمُكُموها وأنتم لها كارهون) تتقارب الأجراس في كلتا اللفظتين وصعوبتهما في النطق وهذه المُفردة متخمة بالضمائر لتُصور مشهد الإكراه. ويجيء لفظ مثل يصطرخون، ليتفرد في أداء مهمة التصوير المُبتغاة في الآية 37 من سورة فاطر: (وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحًا غير الذي كنا نعمل أولم نُعمركم ما يتذكر فيه من تذكّر وجاءكم النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير) إنّ لفظة «يصطرخون» توحي بالجرس الغليظ ليأخذنا إلى تخيل أصوات الصراخ في العذاب دون بصيص أمل في الإنقاذ، والخطاب أثناء الرد جاء بلفظ «أولم» للدلالة على القُرب، ما يحملنا على تجسيد صورتهم وهم يستغيثون الله، وكأنه مشهد يغزو الذهن بلا استئذان، فالاصطراخ هو الصياح الشديد مع طلب النجدة لإخراجهم ولكن أنى لهم ذلك، ولكن لنفترض أن مفردة يصرخون حلت محل يصطرخون فلن يكون لهذا الإيحاء الموجع والتنفير المُرتجى فتكون الصورة باهتة في الأذهان، وهناك لفظ واحد فقط تكفل بحمل المعنى وتشكيل الصور في الذهن هو لفظ «عُتلٍ» التي في الآية 13 من سورة القلم (عُتلٍ بعد ذلك زنيم) الغليظ الجافي الفظ الفاحش اللئيم والشديد في كل شيء، كل هذه الدلالات تضمنها لفظ «عُتل» بحسب القاموس العربي، وللخيال الحرية المُطلقة في تشكيل صورة الشخص الذي يحمل كل هذه المُنفرات الشخصية، كم هي بعيدة الغور اللغة العربية التي تسمح للفظ واحد أن ينوب عن جُمل وعِبارات إن لم نقل صفحات!!.

مشاركة :