الدولة العميقة.. جحور الثعالب الأكثر عمقاًد. قيس النوريسؤال يتبادر إلى الذهن، هل المعلن في المواقف السياسية للجماعات والأحزاب، وكذلك حكومات الدول تفصح تماماً عن خلفيات المواقف ودوافعها وغرضية صياغتها؟ سؤال غالباً ما يجاب عنه أن المواقف المعلنة تكمن وراءها قوى خفية لا تعلن نفسها، أو تختفي وراء أردية غير منظورة، تمثل في حقيقتها القوى الأكثر فاعلية في صياغة الموقف السياسي، عرفت هذه القوى في الأدبيات السياسية المعاصرة بمصطلح (الدولة العميقة)، وهو اشتقاق يفضي إلى التصور أن هناك دولة غير منظورة هي التي تحرك الدولة المعلنة، التي يعرفها الناس بهياكلها المعروفة.برغم ظهور هذا المصطلح الوصفي حديثاً، إلا أن ذلك لا يعني اكتشافاً أو ولادة حالة سياسية جديدة، فالقوى الحقيقية الفاعلة وراء صياغة الموقف طالما تبقى وراء الستار، سر قوتها أنها مخفية لا ينالها أو تتحمل تبعات الموقف المعلن في حالة الفشل، وتعظم فاعليتها إذا كانت النتائج لصالحها، بمعنى أنها في الجانب الأمين معدوم المخاطر.ليس هناك في النظم السياسية جميعاً على اختلافها حالة تخلو من وجود قوى خلف الستار، وما يطفو على السطح في وسائل الاتصال تختص به الحكومة المعلنة، أما جحور الثعالب الأكثر عمقاً فملعبها الغرف المغلقة المتدثرة بألف غطاء خلف أبواب مغلقة، إنها عصابة الدولة العميقة ورجالها الأكثر تأثيراً في صنع الحدث ممن هم في المشهد المنظور.على صعيد المال، فالمعروف عن عائلة روتشيلد مثلاً، أنها تتحكم بحركة المال في العالم، من خلال مؤسساتها وأبنيتها المالية، لكن المشاهد لا يرى شخوص هذه العائلة، ويكاد لا يعرف شيئاً حتى عن حياتها وحياة أفرادها،وعلى صعيد السياسة الدولية، هناك الكثير من الغرف المغلقة، التي تضع الخطوط الرئيسة للمشاهد السياسية، بخاصة في المناطق الملتهبة أو التي يراد لها أن تشتعل، هذه الغرف تتخذ هياكل متعددة منها مراكز البحوث ومنظمات تحمل شعارات إنسانية وغيرها، وحتى الدول الصغيرة لا تخلو من رجال الدولة المحركة (العميقة)، لكنهم هنا مجرد تابعين صغار لمن هم أكبر منهم في دول أخرى تحركهم وفقاً لحسابات غير منظورة أو مفهومة الهدف.الدول الصغيرة غالباً ما تكون تابعة لهذه القوة الكبرى أو تلك (تبعية مصلحية أو أيديولوجية أو مذهبية)، لذلك فإن الدولة العميقة في هذه الدول تشكل حبات صغيرة لا ترتبط في الغالب بالسعي إلى رسم سياسات وطنية بدفع العاملين في هيكل الدولة المعلنة اتخاذها نحو تبني سياسات ذات نفع وطني ما دامت ارتبطت بنيوياً بأجندات خارجية.رجال أو مجاميع التأثير في الرواق الخلفي، ليس بالضرورة أن يكون مجال عملها القطاع السياسي حصراً، بل أنهم يشكلون جماعات مصالح مشتركة، كأن تكون اقتصادية قطاعية، تعمل على زرع رجالها في مفاصل مهمة للدول لغرض تمرير رؤى تصب في مصلحتها.في النظم الغربية عموماً، بخاصة في الولايات المتحدة الأميركية تأطرت هذه المجاميع في هياكل اتخذت صيغ معلنة محمية دستورياً، وظيفتها ممارسة الضغط على الحكومة ومؤسساتها الدستورية والتنفيذية لصالح اتخاذ قرارات تخدم أغراضها القطاعية.ولعل أخطر هذه المجاميع، التي تلعب دوراً محورياً في رسم التوجهات الأميركية، هو ما يعرف بـ(كارتل) تصنيع الأسلحة، أو ما يسمى المجمع الصناعي العسكري الأميركي، حتى تحول الاقتصاد الأميركي برمته إلى العمل على وفق متطلبات اقتصاد الحرب، هذا التجمع يخصص مليارات الدولارات الأميركية سنويا لقطاع الأبحاث لغرض ابتكار الوسائل الجديدة لتطوير فاعلية الأسلحة وكفاءتها وإنتاج المزيد منها، دوافع هذه المجموعة ومموليها هو تصريف السلاح المنتج، من خلال أساليب متعددة تدخل في صلب السياسة الخارجية للدولة الأميركية (المعلنة)، من بينها افتعال الأزمات الدولية، وتصميم الحروب الإقليمية، ومن ثم إيجاد البيئة اللازمة لأسواق تصريف المنتج.السياسة الخارجية للدول الصناعية الكبرى، شرقية كانت أم غربية، لا تصنعها فقط مشاهد الدولة المعلنة بمؤسساتها الدستورية والقانونية، إنما هناك جحور للثعالب الأكثر عمقاً والأكثر سوداوية.
مشاركة :