للوهلة الأولى، قد يخيّل للمشاهد أن إيليا سليمان جمع في فيلمه الجديد "لا شك أنها الجنة" المشارك في المسابقة الرسمية لـ "مهرجان كان" (مع حظوظ كبيرة في نيل جائزة كبيرة ما)، مشاهد وصوراً ومونولوغات وأفكاراً، فاضت عن أجزاء ثلاثيته القديمة التي بدأها قبل ربع قرن وختمها قبل عشرة أعوام. غير أن حضور سليمان ذاته كممثل، إضافة الى كونه مخرجاً في كل لقطة من لقطات الفيلم الجديد، سيجعلنا نتنبه الى أن الفلسطيني الصامت واللامرئي تقريباً، الذي كانه في "سجل إختفاء" و"يد إلهية" و"الزمن الباقي"، تقدم في السن كثيراً حتى وإن بقي هو هو. لكن التقدم في السن زاد من قوة لغته السينمائية التي توغل "غوداريّة" وتنتمي الى "ما بعد حداثة" فريدة من نوعها سينمائياً. ومع هذا هي تستخدم العناصر ذاتها دائماً: "ريبرتوار" الأغاني العربية المختارة بعناية لتضفي على الفيلم معنى ما بل منطقاً يفتقر إليه عن قصد، الأداء الصامت (على طريقة باستر كيتون) لسليمان، جعل من نظرته نوعاً من الشاعر فرجيل، يقودنا كما حال دانتي في "الكوميديا الإلهية" في مجاهل الحياة اليومية، ما يجعله بالتالي عيننا التي ننظر بها. غير أن تلك العين إذا كانت في ثلاثيته جعلتنا وجعلت العالم يشاهد فلسطين بشكل لم يشاهَد في أي فيلم فلسطيني آخر، فإن الجديد هنا، هو أن تلك العين – عين سليمان التي تصبح عيننا – تنطلق وقد أضحت أيضاً عين فلسطين ذاتها، لتنظر الى العالم. فإذا بالعالم كله لا يختلف أي إختلاف عن فلسطين: العنف ذاته، العبثية ذاتها، وخاصة ذات التهديد الذي يحسه سليمان في كل مكان. ولأن لا بد من حبكة. ولأن ايليا سليمان هو نفسه كما هو دائماً في أفلامه، ها هو هنا بعد معايشة غرائب الحياة اليومية في مدينته الناصرة، يزور باريس ثم نيويورك بحثاً عمّن ينتج له فيلمه الجديد. من الواضح أن هذا البحث أمر جانبي، ومن الواضح أيضاً أن السلبية التي يجابَه بها السينمائي وتعيده الى مدينته خالي الوفاض، وقد بات من الواضح أن فلسطين وسينماها ما عادت تهم أحداً، من الواضح أن هذا لا يؤثر على السينمائي – ربما سيجد ضالته في قطر! لكن هذا موضوع آخر – المهم هنا أن ثمة إنقلاباً أساسياً في النظرة الى فلسطين يشكلها جوهر الفيلم حتى وإن كان العراف النيويوركي سيقول لإيليا سليمان: "ستكون هناك فلسطين ولكن ليس في زمنك ولا في زمني". وبالتالي إذ يتحول الفلسطيني المندهش دائماً واللامرئي عادة الى فلسطيني مرئي، على الأقل بالنسبة الى السائق الأسود الذي حين يعرف ان راكبه فلسطيني، يذهل ويهاتف زوجته قائلاً لها ان ثمة فلسطيني "كرفات" – ويقصد عرفات – في سيارتي. فالفلسطيني الآن، بات حقاً جزءاً من العالم في انتظار أن تصبح فلسطين بدورها جزءاً منه. في انتظار ذلك، يعود إيليا الى الناصرة، إلى حياته اليومية أو بالأحرى إلى رصده الطريف لحياة الناس من حوله، ولكن هذه المرة مع ظل ابتسامة خفيفة تلوح على طرف شفتيه. ويا له من تبدل أساسي! تبدّل سنعود إليه وإلى الفعل بتوسّع طبعاً. فيلم كبير وجميل، كالعادة وأكثر ربما، يقدمه لنا إيليا سليمان هنا. فيلم لن يكون من العدل ألا يلفت نظر محكمي مسابقة "كان" الرسمية. ولكن مهما كان مصيره في "كان"، من المؤكد أنه سيكون الحدث السينمائي العربي الأكثر أهمية خلال المرحلة المقبلة، مؤكداً مكانة إيليا سليمان في حاضر هذه السينما، وغائصاً أكثر وأكثر في غرابة سينما لا تتوقف عن مفاجأتنا وإن بوتيرة سينمائية بطيئة إلى حد لا يطاق (نحو عقد من الزمن بين روائيّ طويل وآخر)، ومطوّراً أكثر وأكثر تلك اللغة القائمة على "كولاج" شديد الدهاء والطرافة والألم والعدمية، التي تجعل المخرج يختار لمشهده الأخير مجموعة شبان يرقصون صاخبين في ملهى ليلي على إيقاع أغنية نضالية تحولت هنا الى أغنية "ديسكو"!
مشاركة :