تسارعت فتوحات البحوث التكنولوجية التي تدمج قدرات الروبوتات والذكاء الاصطناعي مع الكيان العضوي للبشر، والتي تؤكد قرب انتقالنا إلى إنترنت التفكير والاتصال المباشر، الذي سوف يسمح بتنزيل البيانات وأداء الأعمال بمجرد التفكير فيها. لكن ما يفوق الخيال العلمي هو أن زرع روبوتات نانوية عصبية في أدمغة البشر سوف يمكّن جميع الأفراد من التواصل، بل وتوحيد قدرات أدمغتهم في دماغ عالمي خارق. وفي ورقة بحثية جديدة نشرت في مجلة “فرونتيرز إن هيومان نيوروساينس″ يتنبأ عالم تقنية النانو روبرت فريتاس جونيور، بأن عصر انتشار “إنترنت الأفكار” على نطاق واسع قد لا تفصلنا عنه سوى عقود قليلة. ويشير البحث، الذي أعده 12 باحثا عالميا وشارك في تأليفه العشرات من المتعاونين من بلدان مختلفة، إلى أن هذه التكنولوجيا الرقمية سوف تمكن البشر من تنزيل المعلومات من الإنترنت والمخزونات السحابية بمجرد التفكير في ذلك. مكاسب خارقة وأجمع العلماء المشاركون في برنامج للتعاون الدولي عن قرب حدوث تطورات وانقلابات هائلة في عالم اتصال الدماغ البشري بالبيانات السحابية، وأن ذلك سيحدث ثورة غير مسبوقة في طبيعة الحياة ومجالات كثيرة مثل الطب. وقالوا إن تلك التقنية، على سبيل المثال، سوف تسمح بتشخيص وعلاج المئات من أمراض الدماغ بفضل ثلاثة أنواع من الروبوتات النانوية. ويرى فريتاس أن تلك الأجهزة في الأفق القريب “سوف تتحرك في الأوعية الدموية البشرية، وتمر من خلالها إلى الدماغ، لتعلق نفسها بين خلايا الدماغ أو داخلها”. وأضاف أن تلك التكنولوجيا سوف تتمكن من حماية جهازنا العصبي من البكتيريا القاتلة والمسببة للأمراض. وسوف يتيح توصيل الروبوتات النانوية بالدماغ البشري، إمكانية انتقال الأفراد بسهولة بين مختلف الأدمغة البشرية الموصولة الأخرى. وبذلك تتشكل مجموعة تستطيع التفكير بشكل جماعي ويمكن أن نعتبرها “دماغا عالميا خارقا”.وكانت إحدى الخطوات المبكرة لهذه التكنولوجيا الثورية قد حدثت في عام 2013، حين طورت مجموعة من العلماء في كوريا الجنوبية روبوتا نانويّا قادرا على تشخيص مرض السرطان. وتمكنت تلك الروبوتات المتناهية الصغر من الكشف عن بروتينات معينة تنتشر بصفة سريعة عند وجود الخلايا السرطانية. وقد ساعد ذلك في علاج المرضى عبر استخدام بكتيريا معدلة وراثيا. في سنة 2015 تمكن علماء من جامعة كاليفورنيا الأميركية من إيصال دواء مباشرة إلى أنسجة أمعاء فئران اختبار باستخدام روبوتات نانوية يبلغ طولها 20 ميكرومترا (جزء من مليون من المتر). واعتمدت تلك الروبوتات على التفاعل الكيميائي بين مادة الزنك، التي تغلفها مع بعض الأحماض الموجودة داخل الجهاز الهضمي، لتنفيذ مهمتها العلاجية. ويشير العلماء إلى أن من بين الآفاق التي تفتحها هذه التقنية في معالجة مرض باركنسون أو الشلل الارتعاشي الذي هو عبارة عن اضطراب في الجهاز العصبي المركزي، يؤثر على الجهاز الحركي ويؤدي إلى مشاكل في التفكير والسلوك أيضا. وتظهر التقديرات إلى أن عشرات ملايين الأشخاص يعانون من هذا المرض. ويؤكد العلماء أن الروبوتات النانوية يمكن أن تحدد أسباب ذلك المرض وأنها تشير إلى إمكانية علاجه بشكل نهائي وتحسين الأوضاع الصحية القاسية، التي يكابدها أولئك المرضى. ويقول فريتاس إن هذه التكنولوجيا سوف تتمكن من تشخيص أعراض المرض بصورة دقيقة منذ مراحله الأولية، حيث ستتمكن الروبوتات النانوية “من نقل المعلومات لاسلكيا وسوف تسمح بمراقبة حالة الدماغ في الوقت الحقيقي واستخراج البيانات”. ويقترح العلماء المشاركون في البحث الدولي استخدام “الجسيمات النانوية الكهربية المغناطيسية” لتعزيز التواصل بين الخلايا العصبية والبيانات السحابية. استخدامات عملية كما تمتد الآمال التكنولوجية الخارقة لهذه التقنية الرائدة إلى الكثير من المجالات الأخرى والتي من بينها التعليم والتنقل. ويمكن الإشارة إلى وجود الكثير من الاستخدامات التكنولوجية القريبة والمرتبطة بشكل مباشر وغير مباشر بالآفاق المستقبلية لاستخدام الروبوتات النانوية لدمج الدماغ البشرية بالأجهزة الإلكترونية الخارجية، والمستخدمة بالفعل في الواقع. هناك على سبيل المثال انقلابات هائلة في تطوير الأطراف الاصطناعية التي تربط بالأعصاب الطرفية وهي تنطوي على ارتباط تلك الأجهزة بالدماغ وغير بعيدة عن بحوث العلماء المتعلقة بإجراء عملية جراحية طفيفة لزرع روبوتات عصبية داخل الدماغ. ويقول فريق البحث الدولي إن إدخال الجسيمات والروبوتات النانوية بأمان إلى المخ عبر الدورة الدموية، لا يزال يمثل التحدي الأكبر أمام انقلاب علمي أوسع. ويؤكد العلماء قدرة أجهزة الكمبيوتر العملاقة الحالية على التعامل مع الكميات اللازمة من البيانات العصبية لهذا النوع من النظام. لكن البعض يؤكد أن نجاح تلك الأبحاث سوف يتطلب تطوير طاقة الحوسبة السحابية بدرجة كبيرة من أجل التعامل مع الكم الهائل من المعلومات الموزعة في خلايا الدماغ. وهناك شكوك في إمكانية تحقيق ذلك دون عقبات مفاجئة قد لا تكون في الحسبان. عواقب خطيرةوتثير هذه الآفاق الخارقة لتوصيل الأدمغة بالبيانات السحابية والإنترنت واتصالها بعقول الآخرين مخاوف لا حصر لها عن إمكانية لاختراق عقول الأشخاص وتوجيههم وربما إعادة تشكيل محتوياتها أو مسحها. ويتساءل البعض عن مستقبل ردود الفعل بشأن الخصوصية، التي تتصاعد الآن ضد إمكانية مراقبة تحركاتنا من خلال الأجهزة الإلكترونية وتقنيات التعرف على الوجوه، رغم أنها مرحلة بدائية جدا مقارنة بتوصيل الدماغ. وإذا كان مؤسس فيسبوك مارك زوكربيرغ يغطي كاميرا اللابتوب الشخصي لحماية خصوصيته من إمكانية التجسس حاليا، فكيف سنتمكن من حمايتها إذا اتصلت أدمغتنا بالإنترنت. لن نتمكن بالتأكيد من تزويد الروبوتات العصبية بشريط لاصق لحمايتنا من أطماع الأطراف المهتمة بعاداتنا الشرائية وميولنا السياسية أو منع الحكومات والعصابات والمنظمات السرية من استغلال الأشخاص الموصولين بالبيانات السحابية. يبدو من المؤكد أن تكنولوجيا الروبوتات العصبية سوف تهدم الحاجز بين الواقع الافتراضي والعالم الحقيقي مما يجعل السفر البدني ممارسة عتيقة. كما قد تستبدل مباني المكاتب بمساحات على الواقع الافتراضي، حيث يمكن حضور مؤتمرات دولية. قد نتمكن من تحميل كل كتب العالم بضغطة زر، دون قرأتها كلمة كلمة. وقد نتمكن من ترتيب الذاكرة والعودة إلى ما رأيناه في طفولتنا وبوضوح تام حين كانت أعمارنا يوما واحدا. بل ربما نعود إلى ذاكرتنا في أرحام أمهاتنا. وربما نتمكن من مسح ما لا نريده من الذكريات. لا بد أن يكون جميع ما نعرفه في هذا الميدان ضئيلا بسبب صعوبة اختراق ما يحدث في المختبرات والضوابط القانونية التي تدفع العلماء إلى إجراء التجارب بسرية تامة. يمكن أن نتخيل منافع هائلة لتلك التجارب، لكن في المقابل لا يمكن لأي مخيلة شيطانية أن تتوقع أبواب الجحيم التي ستفتحها، لأن البعض ستكون إمكاناتهم أكبر بكثير من آخرين، وسيذهب البعض إلى مديات أبعد وأخطر مما تسمح به القوانين والسلطات. هجمات قراصنة الكومبيوتر اليوم قد تتحول إلى تخريب أدمغة البعض. بل إن أسياد العالم السفلي قد يذهبون ذات يوم لمسح أدمغة بعض الأشخاص وتحميل برامج ومعلومات تحولهم إلى جنود مثاليين لخدمة أغراض محددة. هل ستدخل طبيعة الحياة في طريق اللاعودة عند المغامرة بهذه الخطوات الكبيرة التي تبعدنا عن الثوابت الغريزية الراسخة منذ ملايين السنين، حيث ارتبط إحساسنا بذاتنا ارتباطا وثيقا بالبيئة المحيطة بنا. يمكن اليوم في هذه المرحلة، التي أصبحت بدائية مقارنة بما تقدمه لنا كل يوم الاختراقات العلمية، أن نلاحظ اختلالات المجتمعات البشرية، بعد موجة انتقال التواصل مع المحيط إلى الشاشات وسماعات الرأس. مجرد النظر إلى أي شارع اليوم، حتى لو كان في قرية في دول العالم الثالث يظهر حجم التحولات، حيث يتحرك معظم الأشخاص وهم يحدقون في هواتفهم، التي أصبحت تمثل معظم علاقتهم بالعالم. يمكن ببساطة الوصول إلى استنتاجات واضحة تؤكد أن هوسنا باليوتوبيا والتكنولوجية، لا يمكن أن يحدث دون انعطافات واختلالات جانبية قد تكون أخطر من جميع ما يراود المتشائمين والمحذرين. آراء متفائلةلكن في الوقت نفسه هناك متفائلون بالآفاق التي يفتحها توصيل أدمغتنا ببعضها وبعالم البيانات السحابية وهم يقللون من مخاطر ذلك على مستقبل النوع البشري. ويرى نونو مارتينز الأكاديمي في جامعة كاليفورنيا الأميركية أن الإدراك الجماعي المشترك، الذي يعد بعد تكنولوجيا الروبوتات النانوية المندمجة في الدماغ، يمكن أن يعزز التعاطف ويوحد في النهاية المجموعات المتنوعة ثقافيا في مجتمع عالمي حقيقي. وترى أقلية من الخبراء مثل مارتينز أن ذلك المسار أكثر أمانا من ترك الروبوتات تتطور بمعزل عنا لتتفوق علينا وقد تتحكم بنا دون أن نتمكن من إيقاف نفوذها وهيمنتها. ويرى الملياردير المغامر إيلون ماسك أننا إذا بقينا على قيد الحياة بعد هيمنة الروبوتات فسوف نكون مقيدين وربما يتم إقصاؤنا إلى “مناطق محمية” قليلة مثل الشمبانزي حاليا، إذا لم ندخل المنافسة مع الروبوتات بتوصيل أدمغتنا بالكومبيوتر. ولذلك فقد دخل ماسك هذا الميدان منذ عام 2016 لينقله إلى مدار آخر، من خلال ربط الدماغ بالذكاء الاصطناعي، وهو يؤكد أن الهدف بعيد المدى للبرنامج هو خلق تكامل بين الدماغ البشري والذكاء الاصطناعي. ويلخص هدف البرنامج الذي أطلق عليه اسم نيورولينك Neuralink بالسعي “لحفظ النوع البشري من الفناء من خلال مواصلة التفوق على الآلات والروبوتات الخارقة الذكاء”. ويؤكد ماسك أنه إذا أصبح لدينا الملايين من الأشخاص المتصلين بالذكاء الاصطناعي فإن ذلك سيجعلنا خارقي الذكاء. ويشير موقع نيورولينك على الإنترنت إلى أن المشروع يعمل حاليا على تطوير نطاق برودباند بقدرات هائلة على نقل البيانات ليتمكن من ربط الدماغ البشري بالكومبيوتر. ويقول ماسك إن البرنامج سوف يركز أولاً على التطبيقات الطبية لكنه سيطور الرقائق الإلكترونية الدماغية للوصول إلى تكامل الدماغ مع الذكاء الاصطناعي. ويقول ماسك إن الروبوتات الفائقة الذكاء سوف تهيمن في المستقبل على حياتنا وأن البشر سوف يحتاجون للتفكير مثل الآلات لتجنب تدميرهم من قبلها. ويضيف أن البشر ينبغي عليهم دخول سباق مع الروبوتات، التي هو على يقين بأنها ستصبح فائقة الذكاء والتطور ومتقدمة جدا في نهاية المطاف وأنها سوف تحاول الإطاحة بصانعيها البشر. وفي خلاصة تقاطعات تلك المشاريع، التي لا يبدو أن بالإمكان إيقافها، يمكننا أن نتخيل الأبواب التي يمكن أن يفتحها توصيل الدماغ البشري بالإنترنت والتي تبدأ بإمكانية تسلل السلطات والشركات وقراصنة الكومبيوتر إلى أدمغتنا ولا تنتهي عند ما يمكن أن نتخيله اليوم.
مشاركة :