الصحافة كفن مجازي.. هيكل مثال

  • 5/26/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

عبدالله السناوي في الصحافي لمحة فنان ومشروع روائي، لكن الصحافة «فن مجازي، فماكيناتها تدور بالأخبار والتحقيقات، وما يهم القارئ باليوم التالي أن تخرج إليه بجديد آخر». «الفن ثابت وفي ثباته مشروع خلوده، والصحافة متغيرة وفي تغيرها موهبة متابعة اهتماماتها». «لسنا فنانين ولا روائيين ولا مؤرخين، لكن استلهام الفن في روحه والرواية في دراميتها والتأريخ في أدواته يضفي على الرواية الصحافية جمالاً وحيوية ودقة.. وهذا أقصى ما يطلبه صحافي».هكذا تحدث الأستاذ «محمد حسنين هيكل» وهو يحاول أن يشرح حدود التداخل والافتراق بين الصحافة والفن.«لا أستطيع ولا يستطيع غيري أن يخطط لمجموعات كتبه على النحو الذي خطط به نجيب محفوظ لثلاثيته الشهيرة، فالروائي لديه مخطط عام له بدايات ونهايات يصوغها بقدر ما حباه الله من موهبة، يتحكم في حركة الأحداث ومصائر أبطاله، ويضفي على النص فلسفة ما يعتقد فيها، ولا نص عظيماً بلا فلسفة وراء حركة أبطاله، بينما الصحافي يبدأ من نقطة ما افتراضية، فهو محكوم في روايته بالتاريخ الفعلي، الذي لا يعرف بدايات ونهايات، وحركته متصلة على الدوام». في رواياته لحوادث التاريخ المعاصر تجلت مواهب البناء الدرامي لأبطاله وشخوصه، ففي «سقوط نظام» قراءة في الخلفيات الإنسانية لما قبل يوليو.. تراجيديا «الملك فاروق» وأسرته والرجال من حوله وصراعاتهم، وفي «ملفات السويس» قراءة أخرى لخلفيات إنسانية صاحبت الصراع على المنطقة في حرب إرادات دخلت فيها طبائع بشر. في «ما بين السياسة والصحافة» تداخلت الرواية الأدبية مع زخم الوثائق دون إخلال بالإيقاع، وهذه مهمة صعبة على من ليست لديه مواهب الروائي الكامنة. وفي «خريف الغضب»، بغض النظر عما أثاره من مساجلات سياسية صاخبة، بدا روائياً متمكناً من أدواته الفنية في صياغة المشاهد الإنسانية وتقلبات نوازع البشر. في «فلسفة الثورة» أولى وثائق ثورة 23 يوليو 1952 التي صاغ نصها إشارة إلى مسرحية «لويجي بيراندلو» «ست شخصيات تبحث عن مؤلف». «كان هناك مسرح سياسي متكامل، وخشبة جاهزة، والكل يبحث عن بطل يقف على تلك الخشبة، ويشغل المكان». «عبدالناصر» تأثر بتلك المسرحية، والأفكار الرئيسية التي تضمنتها «فلسفة الثورة» هو صاحبها.بصورة ما جمعت بينهما ثقافة عامة شبه مشتركة في الآداب والفنون، كما الفكر والسياسة والأمن القومي.في إحدى مداخلاته التلفزيونية (إبريل ٢٠٠٦)، حاول أن يشرح ما كان يجري من مشاهد في مقر القيادة بعد انفجار (٢٣ يوليو) بأسلوب سينمائي أسعفته به ثقافته العامة.«في فيلم البوستينو، وهو يصف أيام المنفى التي عاشها شاعر شيلي العظيم بابلو نيرودا في جزيرة إيطالية قرب شاطئ كلابريا، سأله ساعي البريد الذي يأتي كل يوم إليه حاملاً حقيبة بوستة يرسلها معجبوه من كل أنحاء العالم: «كيف يمكن لشخص أن يكون أديباً؟!».«أجاب نيرودا: السر في الأدب أن يعبر أصحابه بما يجعل الألفاظ فيها حياة وفيها حركة.. وبما يجعل الكلمة قادرة على نقل الصورة».قال: «هذا ما سوف أحاوله اليوم، أن أقوم بدور ساعي البريد في شرح ما جرى».«التاريخ دراما هائلة والإيقاع يضمن ألا يربك سياقاً، أو يشتت قارئاً». كانت إحدى معضلاته في رواياته ل «حرب الثلاثين عاماً»، و«المفاوضات السرية»، و«ما بين السياسة والصحافة»، ضبط الإيقاع بحيث يضمن التدفق الطبيعي لدراما التاريخ موثقة بلا ملل في البناء، أو بزحام وثائق في غير موضعها.«كل ما يكتب وله قيمة ينطوي بالضرورة على فكرة تقنع وشيء يمتع، والإمتاع أحد أسس قضية الأسلوب».في منتصف ستينات القرن الماضي سأله «توفيق الحكيم» أن يبدي رأيه في مقال انتهى من كتابته للتو، ومقالاته تمزج ما بين الأدب ونقده والحياة وتأملاتها.فاجأه السؤال، لكنه أجاب على الفور: «يا أستاذ توفيق أنا أقرأ ما تكتب كأي قارئ آخر، أرسله إلى المطبعة أياً ما كتبت ولا تراجع أحداً».. وفي يقينه قاعدة استقرت: «عندما يكون لصاحب الرأي تجربة عريضة، واسمه يزكيه فهو وحده من يتحمل مسؤوليته أمام الرأي العام، ولا شأن لأي رئيس تحرير بما يكتب».لم يكن «الحكيم» مستريحاً لما كتب واستبد به قلقه.. أراد أن يتأكد بنظرة أخرى يطمئن إليها أن أسبابه في محلها.ولم يكد «هيكل» يطالع النص ويشرع في القول: «هناك بعض ملاحظات» حتى استوقفه «الحكيم» طالباً إعادة المقال إليه، ومزقه بلا تردد ملقياً أوراقه في سلة مهملات.القلق من طبائع الإبداع، فما هو رتيب ومألوف ومتوقع لا يلهم إبداعاً يبقى، أو يفضي إلى رؤية تختلف.سألني ذات مرة: «ما العبقرية؟»، لم يكن يتحدث عن نفسه، والحوار الذي قطع سياقه بسؤال العبقرية كان عن شخصيات صحافية وسياسية لها أدوارها المقدرة.أجاب عن سؤاله بنفسه معتمداً تعريفاً للمؤرخ الهولندي «هنريك فان لون»: «كمال التقنيات وشيء ما آخر»، أن يكون كل شيء دقيقاً ومتقناً يتوخى الكمال بقدر الاستطاعة الإنسانية، لكن التقنية المكتملة وحدها ليست عبقرية، ف «التكنوقراطي» عنده التوجه ذاته للوصول إلى أعلى ما يستطيع من تقنية مكتملة. هي ضرورية بذاتها وملازمة للإبداع الذي يتجاوز المألوف والمعتاد، لكن العبقرية تستند، إضافة إلى اكتمال الصنعة، إلى شيء آخر لا تستطيع أن تعرفه، أو أن تمسكه، أو أن تحيط بأسراره، ولكل شخصية استثنائية «شيء ما» يتخطى تقنياتها غير قابل للاستدعاء المعلب، وغير صالح للنظريات الجاهزة.. هكذا كانت تجربة «محمد حسنين هيكل».

مشاركة :