كتب الدكتور محمد عثمان الخشت رئيس جامعة القاهرة مقالا مهما في جريدة الأهرام تحت عنوان: "متى يتجاوز العقل المصري منابر الثرثرة؟".وخلال مقاله قال الخشت: "نحن لا نسمع إلا ثرثرة وادعاء فضيلة، لا نسمع من الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الناس والمجتمع إلا كلاما كثيرًا، ولا نجد إلا عملا قليلًا، مع عجز كامل عن الفعل المؤثر فى الواقع إلا سلبا، وما حكمتهم إلا ثرثرة فوق النيل، ربما بمعنى ما من المعانى التى كان يقصد إليها نجيب محفوظ درة من أخرج قسم الفلسفة بجامعة القاهرة".وتابع: "لكنه ليس المعنى كاملا لأن الثرثرة فى عصرنا أصبحت واسعة النطاق وعلى المفتوح فى وسائل التواصل الاجتماعى، وأصبحت ذات تأثير سلبى واسع، حيث تحول بعض المصريين الذين يفتون ويتَفَيْهَقون فى كل شىء إلى أصحاب منابر على الفيس بوك وتويتر، يحللون كل شىء كخبراء متخصصين تخصصات دقيقة فى الموضوع!".وأشار إلى أن الفارق بين الثرثارين الذين تحدث عنهم نجيب محفوظ والثرثارين فى عصرنا، أن الثرثارين القدماء لم تكن ثرثرتهم ذات تأثير سلبى فى الواقع، أما الثرثارون فى عصرنا فإنهم يسهمون فى إحداث حالة من الفوضى غير الخلاقة، وإرباك الإدراك العام، وتشتيت العقل الجمعي؛ وقلب معايير إصدار الأحكام والتقويم، وفرض الوصاية على الآخرين.وشدد على أنه للأسف أن هؤلاء الثرثارين الذين ينصبون أنفسهم للوصاية على الناس، لا تجد منهم إلا كلاما فى فنون الإدارة وفنون الحكم، مع أن كثيرا منهم لا يستطيعون أن يديروا منازلهم، ولا حتى يستطيعوا أن يديروا أنفسهم! إنهم يضعون لك معالم المدينة الفاضلة فى كتاباتهم، لكنهم لا يستطيعون أن ينفذوا منها شيئا فى الدوائر التى يعملون بها ولا حتى فى أنفسهم أو منازلهم.وأكد أنه ربما لم يختلف جوهر شخصيات نجيب محفوظ فى رائعته ثرثرة فوق النيل عن جوهر شخصيات الثرثارين فى عصرنا.وجاء نص المقال كالتالي : " إن شخصيات نجيب «أنيس، أحمد نصر، مصطفى راشد، على السيد، خالد عزوز، رجب القاضى، سمارة، حارس العوامة»، لا يزالون يعيشون بيننا، لكن خريطة مثاليتهم أصبحت أكثر اتساعا وعمقا، وانضمت إليهم شخصيات جديدة نتيجة الحراك الاجتماعى الزائف الذى حدث فى العقود الأخيرة، الأمر الذى يستوجب ظهور روائى جديد كى يقص قصتهم فى عصر الثرثرة الجديد. والأمثلة كثيرة، فنجد من يفشل طوال حياته، ثم ينصب نفسه مصلحا اجتماعيا! وهو نفسه الذى يفشل فى كل معاركه الحقيقية لكنه يجيد النجاح فى المعارك الوهمية! ونجد من ينقد الآخرين، ويجعل نفسه شهيد العصر والحارس على قيم الأجداد، وهو لا يستطيع أن يبرح غرفته، ولا يدرى أن هذا إحدى علامات المرض النفسى! ونجد من يتمتعون بذاكرة السمكة ولا يحكمون على الشخص أو الظاهرة فى سياقها الاجتماعى أو التاريخي، ولا يحكمون على الناس فى ضوء تاريخهم كله، بل يحكمون عليهم بموقف عابر أو جزئي! ونجد من يقتطعون العبارات من سياقها ويحرفون الكلم عن مواضعه ثم يقيمون موائد النقد من أجل بطولة زائفة!.ونجد من يتخذ نقد الآخرين حرفة لابتزازهم، وفى سبيل هذا يكذب ثم يكذب ثم يكذب، ثم يدعى أنه شجاع أو موضوعي! ومثل هذا كل من يستمع له ويصدق كذبه ويتناقله دون تحرى الحقيقة، فهو ومَنْ على شاكلته :«سماعون للكذب سماعون لقومٍ آخرين لم يأتوك». وربما لا تكون هذه النماذج جديدة بشكل مطلق، بل متوارثة، لكنها أصبحت الآن تتسيد منابر الإرجاف والشوائع.ولأننا لا نتعلم، ونملك ذاكرة فريدة تتميز بسرعة النسيان، فإننا لا نتعلم أبدا من مفكرينا الذين نتشدق بقيمتهم، مثل طه حسين الذى عانى الظواهر الصوتية الجوفاء فى عصره، فقال عنهم: «الذين لا يعملون يؤذى نفوسهم أن يعمل الناس»، ولذا دعا الله قائلا: فلنبتهل إلى الله فى أن يبرئنا من علة الكلام الكثير، فلعلنا إن برئنا من هذه العلة أن نجد العزاء عن آلامنا وكوارثنا، فى العمل الذى يزيل الآلام، ويمحو الكوارث، ويجلى الغمرات.وعلى الرغم من تنبيه طه حسين، ظل الأغلب منا يتكلمون ويظنون أنهم يفعلون، فإذا أردت الإصلاح عليك التحدث فقط عن الإصلاح دون ممارسة فعل الإصلاح! وإذا أردت التقدم تحدث فقط عن التقدم ولا تمارس فعل التقدم! وإذا أردت التغيير تحدث فقط عن التغيير ولا تمارس فعل التغيير! والأفضل أن تتحدث عن تغيير كل شيء إلا تغيير نفسك!.إننا لا نزال مثاليين فى أحلامنا، لكننا منفصلون عن الواقع ونحلق فى عوالم من أضغاث أحلام، وتحركنا الأوهام، ويضللنا معسول الوعود والكلام، ولا نزال غير قادرين على التفرقة بين القدرة على الكلام والقدرة على الأفعال!.والأسئلة الواجبة هنا: متى ينتهى عصر الثَّرْثَارين، والْمُتَشَدِّقينَ، والْمُتَفَيْهِقين؟ متى يتجاوز العقل المصرى عصر الظاهرة الصوتية إلى عصر الفعل؟ متى يتحول من الحديث عن التقدم إلى ممارسة فعل التقدم؟.".
مشاركة :