ليلاس سويدان – عرفت الساحة الأدبية في العالم كله ثنائيات من الكتّاب جمعها الحب أو الزواج، وبعضها نشأ أصلا من خلال التقاء الأفكار أو حوارها وأنتج مادة أدبية وإبداعية شغلت النقاد والقراء. ولكن تظل المساحة المجهولة في علاقتها هي عالمهما الخاص داخل جدران بيت يجمعهما. هذه المساحة الخاصة أو ارتباطهما الزوجي هي حوار من نوع خاص بين مبدعين، والذي قد يثير فضول القارئ ليعرف عنه أكثر، وعن أثر وجود شريكين مبدعين تحت سقف واحد، على إنتاج كل واحد منهما بشكل مباشر أو غير مباشر. مجموعة حوارات أجريناها مع بعض هذه الثنائيات الأدبية، والتي أجاب كلا طرفيها عن الأسئلة من وجهة نظره عن علاقته بشريكه. وهذه المرة الثناني هما: الروائية والقاصة منصورة عزالدين والروائي ياسر عبدالحافظ. منصورة عزالدين: الكتابة متطلبة جدًا، تتطلب وقت الكُتَّاب كاملًا، حتى في تلك الأوقات التي لا يكتبون فيها، عليهم التفكير في الكتابة والعيش ككتاب طوال الوقت. الزواج بكاتب أمر يكفل العيش مع شخص يعي تمامًا متطلبات الكتابة ويدرك تحكماتها وما تستدعيه أحيانًا (دائمًا؟) من الحياة في عالم موازٍ، أو على الأقل ما تستدعيه من الحياة في موقع المراقب المتأمل. يتيح تفهم هذا، لطرفي العلاقة، مساحة خاصة لكل منهما، مما يوفر كثيرًا من الجهد والطاقة، لكن المبالغة في الحفاظ على هذه المساحة قد يحفر هوة بين الشريكين. المسألة تحتاج إلى دربة على إيجاد مساحات شخصية مشتركة، خارج الكتابة، تعوض بالكيف ما ينقص بالكَم. مفتاح النجاح في علاقة مماثلة هو تقدير كل طرف موهبة الطرف الآخر وإيمانه به وباستقلاليته، وفي غياب التقدير الصادق قد تتحول علاقة مماثلة إلى جحيم. ياسر عبدالحافظ: في ظني أن المبدعين، على اختلاف أفكارهم ورؤاهم والمدارس الفنية التي ينتمون إليها، يشتركون في صفة أساسية تكمن في عدم تقبل العالم بالصورة الموجود عليها، لا أعني نظامًا سياسيًا أو اقتصاديًا وخلافه، بل الوجود بأكمله سواء كان ذلك مادة أو أفكارا، الفن قبل أن يتحول إلى منتج مادي هو دوامة داخل رأس صاحبها من هذا الرفض والبحث عن شكل مغاير، أو بمعنى أدق الشكل المفقود، هذه الغربة المؤرقة، لا يتقبلها الكثيرون، تُفسَّر على أنها حياة في برج عاجي. في حياتي المشتركة مع منصورة فإن تفهم وإدراك هذا النأي الطبيعي، يمثل الأساس اللا واعي لعقلينا، بالطبع استغرق الأمر منا بعض الوقت، وربما لم يكن للأمر أن ينجح لولا أن الفن هو الأساس، ولا أقصده هنا بمعنى الاشتغال به فقط، وإنما قبل ذلك أن يكون الأرضية التي يجري عليها حالة الجدل المستمرة سواء كان الموضوع يخصه أو لو كان شأنًا حياتيًا عاديًا. أمر لا يتكرر كثيرًا في الحياة أن تجد من يمكنك التحاور معه بسهولة، لا أعني الاتفاق على كل تفصيلة، على العكس هناك الكثير مما نختلف حوله، لكن ألا تكون غريبًا عندما تتحدث، أن يتم تقبل آرائك وفي الوقت نفسه تواجه بآراء ربما لم تطرأ على ذهنك، سواء لتميز فكرتها أو لكيفية صياغتها. إنما، على الرغم من هذه الميزة الثمينة في علاقة مشتركة، فإن الأمر لا يكون في كثير من الأحايين سهلًا، لأن هذه العلاقة ليست أكاديمية مثلًا، ليست صداقة وإن كانت الصداقة جزءًا أساسيًا منها، لكنها علاقة أكثر تعقيدًا لأن المجتمع، العالم المرفوض أصلًأ من طرفي العلاقة يتدخل في الكثير من تفاصيلها، يدرك أنه مرفوض ويهاجم بكل المفردات التي يملكها: تفاصيل الحياة اليومية، أمور المعيشة والبيت والأولاد، هذه المسؤوليات، خصوصًا بصيغتها المحلية، تتناقض، في كل دقائقها، بصورة جذرية مع الإبداع والحل الوحيد، والصعب، أن يتماشى هذا «البيت الواحد» مع منطق الإبداع، قرار يصطدم بعقبات غير عادية أهمها مثلًا حق طرفي العلاقة، والأولاد، الذين يتدخلون بدورهم في إعادة صياغة الشكل العام، في الحياة الطبيعية بخفتها التي تصنع التوازن، هنا من الضروري النظر إلى الفن باعتباره عملية يومية مستمرة ودائمة تقصد دمجه في صيغته المرحة مع المسؤوليات ليتحول من وظيفة إلى أسلوب حياة. القارئ الأول -هل تعرض ما تكتبه على شريكك قبل نشره، وهل قرب المسافة جعل بينكما مشتركات على صعيد الأفكار والكتابة والأسلوب؟ منصورة عزالدين: نعم، ياسر أول من يقرأ أي عمل جديد لي قبل النشر، ورأيه مهم وأساسي بالنسبة إلي، لتقديري لذائقته أولًا، ولثقتي بأنه لا يجامل ثانيًا. منذ البداية نحّينا المجاملات جانبًا فيما يخص الكتابة، نتناقش بموضوعية بل بقسوة أحيانًا. أتذكر أن نقاشنا الأول كان صداميًا جدًا، وإن كان بخصوص تقرير صحافي وليس عملًا إبداعيًا. قرب المسافة دعم التفاهم وعلمنا تقبل الاختلافات بيننا والتسامح معها وليس إلغاءها أو إنكارها. عوالمنا الإبداعية مختلفة تمام الاختلاف وكذلك طريقة كل منا في الكتابة، كما أن أسلوبينا متباينان. سوف أضرب مثالًا يوضح اختلاف نظرتنا للأمور. كلانا مهتم بالثقافة الصينية القديمة، لكن ما يهمني فيها بالأساس الفلسفة الطاوية كما يمثلها لاو تسي وشوانج تسي على سبيل المثال لا الحصر، يهتم هو بفلسفات الفنون القتالية الصينية وكتابه الأهم «فن الحرب» لسون تزو. حكيت لصديقة صينية عن هذا، فضحكت وقالت إن تشابهنا الظاهري في الاهتمامات، يحوي في باطنه طبقات متوارية من الاختلاف والتباين. أعتقد أن هذا صحيح، وهنا من المهم إدارة هذه الاختلافات بحيث تكون عامل قوة. ياسر عبدالحافظ: نعم، منصورة أول من يقرأ لي، ورأيها أساسي وضروري بالنسبة إلي. مؤكد أن لدينا أفكارًا متقاربة بخصوص موضوعات عديدة، من بينها الكتابة، لكن الفكرة أن عالمينا في الكتابة مختلفان أشد الاختلاف، كذلك الأساليب، وعلى مدار السنوات تأكد اختلافنا أكثر من هذه الناحية، ربما لأننا لم نسع لنكون شيئًا واحدًا، وربما لإيماننا الكامل بأن الاختلاف والتنوع والتمايز أمور لا مجال للتخلي عنها. الكتاب المفضل – ما أهم ما كتبه شريكك بالنسبة إليك، ولماذا؟ منصورة عزالدين: أحب روايتيه «بمناسبة الحياة» و«كتاب الأمان»، لكن الأخيرة لها مكانة مميزة عندي، لأنني أعرف كم عاشت شخصياتها معه، فقد حكى لي عن شخصية بطلها مصطفى إسماعيل في بداية تعارفنا، وقرأت مخطوطتها الأولى في 2008، ثم مخطوطتها النهائية بعدها بسنوات. أحب شخصيات هذه الرواية جدًا، وفي رأيي أنها شخصيات لا تُنسى، كما تعجبني بنية الرواية وقدرتها على طرح أعقد المشكلات الفلسفية والأخلاقية بطريقة جذابة لا تخلو من سخرية لاذعة. ياسرعبدالحافظ: عاطفيًا «وراء الفردوس»، لأنه عمل تمكن من توظيف كل معرفة الروائية في سرد لا سبيل للنجاة من شباكه، عمل فني يمدني بمتعة تنسيني التحليل والدلالات والنقد، يترافق مع هذا أنه يمكن قراءة الرواية على أكثر من مستوى، اجتماعي وسياسي وثقافي. مع هذا فإن «أخيلة الظل» تمثل، بشكل عقلي، خطوة مهمة في مسيرة منصورة الإبداعية لأنها تمرد واعٍ وشجاع على رؤيتها للفن، دعوة للقارئ ليغادر مقعده الكسول ويبحث ويفكر ويشارك في صياغة النص الذي يقرؤه. قراءة وكتابة -كيف تصف شريكك كمبدع، بعين من يراه بكل تفاصيل حياته اليومية أو في المساحة المجهولة من حياته؟ منصورة عزالدين: ياسر يأخذ الكتابة على محمل الجد؛ لا يهمه النشر أو الانتشار بقدر ما يعنيه أن تكون الكتابة غاية في حد ذاتها، ربما يأمل أن تكون دربًا يقود إلى مزيد من الفهم، غير أنه يعرف مراوغاتها وقدرتها على توليد أسئلة لا نهائية. هو أيضًا قادر على تحويل أي شيء إلى فن، بما في ذلك تفاصيل العيش العادية. أتمنى فقط لو لم يكن مقلًا إلى هذه الدرجة، لا لشيء إلّا لرغبتي في قراءة أعمال أكثر له. ياسرعبدالحافظ: كمبدعة، تبذل منصورة الكثير من الجهد لأجل الكتابة، عملية هي بالنسبة اليها فعل مستمر، ترافقها دومًا في كل ما تفعله، تقرأ كثيرًا وفي مجالات متنوعة، على رأسها التراث والشعر القديم، تمنح الكتابة العناية اللازمة وتنشغل طوال الوقت بالبحث في الثقافة العربية أو الغربية للعثور عن الإجابات أو وراء أسئلة جديدة.
مشاركة :