مصطلح السُّكْر عند أهل الطريق إلى الله يطلق على كل ما يناقض البصيرة والفطرة، ويشغل عن الله، والناظر في شكوى الشباب في هذه الأيام من الإحساس بضيق صدورهم والانقباض، ونكد العيش، وشدة الخوف من المستقبل، وشدة الحرص والتعب لتحصيل رغائبه، والتحسر على فوات الدنيا، قبل أن يملكها في يده، وبعد أن تكون في يده، كل هذه الآلام يشعر بها قلب الشاب من حين لآخر وتعتبر منبهات له من غفلته، لكن لا يفيق الشباب منها لشدة سكرته، فهو لا يصحو ساعة إلا أحس وشعر بهذا الألم، فبادر إلى إزالته بسكر ثان، فيبقى الشاب مدة حياته منغمسا في سُكْر بعد سُكٍْر، وأي عيشة أضيق من تلك العيشة النكدة التي يكابدها الشباب، لو كانت قلوب الشباب بها حياة؟ وقد عدد أهل الطريق إلى الله أنواع السكر الذي ينغمس فيه الشباب وغيرهم إلى عدة أنواع:منه: سُكْر الشَّهوة: فإن لها سكرًا أشد من سُكْر الخمر، وشهوة الشاب إما أن تكون لمال، أو طعام، أو نكاح، فإن كانت للمال قيل للشاب: «شَرِه»، فإن اختصت بحرصه على لذيذ الأطعمة قيل له: «نَهِم»، وإن كان حرصه للنكاح قيل لها: «شَبِق»، وثلاثتها - أعني الشَّرَهُ، والشَّبَقُ، والنَّهَمُ – صفات لو لحقت بالشاب فهي صفات مذمومة نابعة من قلة العفة، ولذلك ورد عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: «منهومان لا يشبعان منهوم بالمال، ومنهوم بالعلم»[أخرجه ابن شيبة في مصنفه حديث رقم 26118]،وقد نصح أبو مسلم الخولاني فقال: "يا معشر خَوْلانَ أَنْكِحُوا نساءكم وأياماكم، فإن النَّعْظَ أَمْرٌ عَارِمٌ، فأعدوا له عُدّةً، واعلموا أنه ليس لِمُنْعِظٍ رَأْيٌ" يعني: أنه أمر شديد. [لسان العرب 7/ 465]أَنْكِحواوعلاج هذا النوع من السُكْر في الصيام، وتضييق مجاري الشيطان، ومنه ما عن َرَوَى أَبُي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , أَنَّهُ قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «كُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا ابْنُ آدَمَ تُضَاعَفُ لَهُ مِنْ عَشْرَةٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَّا الصَّوْمَ، فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ مِنْ أَجْلِي، وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَلِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ فَرْحَةٌ عِنْدَ الْإِفْطَارِ وَفَرْحَةٌ عِنْدَ لِقَاءِ رَبِّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [مسند أحمد ط الرسالة حديث رقم 7607].ومنه: سُكْر الحِرْص: وأقصد الحرص المذموم الذي ينشأ منه شدة الرغبة في الدنيا، وعدم الزهد فيها، فالتكالب على الدنيا رأس كل خطيئة، وأصل كل بليّة، وأساس كل رزيّة، فالشباب الحريص على مصلحته الشخصية فقط، الباحث عن ملذاته، المنغمس فيها؛ لهو سكران في صورة صاحٍ.والصّحو من حالة السُّكْر هذه لا تكون إلا بعلاج الرضا بما قَسَم الله وقدَّر، والرضا يثمر الشُّكر، الذي هو من أعلى مقامات الإيمان، بل هو حقيقة الإيمان، فرِضَى الشاب عن ربه في جميع حالاته: يفيقه من سُكْر الحرص، ومنه قوله تعالى: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}[البينة: 8]ومنه: سُكْر الجهل: والجهل لا أقصد به التخلف عن قضية التعليم، بل الجهل بطريق السلوك إلى الله، وبه تحقق الدعوة من الجبار تبارك وتعالى، والجهل بالطريق إلى الله نوعان :الأول: جهل العلم بالله، وبشرعه، وما يُحبه، وما يُبغضه، وما يُقرب إليه، وما يُبعد عنه.والثاني: جهل العمل، وهو أن يعلم ولا يعمل، وذروته اليوم في حياة الشاب في توافر ملايين المعلومات الدينية، والسلوكية المقربة إلى الله، ومع ذلك لا تجد من يطبقها ويعمل بها، فإذا تحكم هذان النوعان جهل العلم، و جهل العمل فلا تسأل عن سُكْر صاحبهما!وقد صور حجة الإسلام الغزالي -رحمه الله- هذه القضية الخطيرة بأن يتلازم العلم والعمل، في سلوك الشباب؛ فنصح في رسالته «أيها الولد»، بقاعدته : [العلم بلا عمل جنون، والعمل بلا علم لا يكون]، فأرشد لما هو مطلوب وهو المزاوجة بين العلم والعمل. ومنه سُكْر الغضب: فالغضب غول العقل، يغتاله كما تغتاله الخمر، ولهذا «نهى النبي - صلى الله عليه وسلم- «أن يقضي القاضي بين اثنين، وهو غضبان»، والغضب نوع من الإغلاق على بداهة العقول؛ لأن الغضب يشوش على الشاب قلبه وذهنه، ويمنعه من كمال الفهم، ويحول بينه وبين استيفاء النظر، ويعمي عليه طريق العلم والقصد، ويظهر جليًا لذي عينين هياج الشباب في العراك في الشوارع والمواصلات لأتفه الأسباب، فإن وعظته وأخذت على نفسك جانب النصح لم يسمع لك؛ لأنه سكران بنار الغضب، ولذلك فإن من شدة سكره يقوم الشاب بالدعاء على نفسه، أو أصدقائه، أو أهله، في حال الغضب، ولو استجابه الله تعالى لأهلكه، وأهلك من يدعو عليه، ولكنه لا يستجيبه لعلمه بأن الغضب له سكرة، والداعي لم يقصده، ومنه قوله تعالى:{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} [يونس: 11]. وتلك القوة الشيطانية التي تشبه السُكْر تطفأ بالماء، هكذا جاء الحديث، ونظيره الحديث الآخر «إن الغضب من الشيطان، فإذا غضب أحدكم فليتوضأ». ومنه سُكْر الفرح: ولما كان الفرح يوجب انبساط دم القلب، فينبعث في العروق، فتمتلىء به، فلا تطلب الأعضاء حظها من الغذاء المعتاد لاشتغالها بما هو أحب إليها، وإلى الطبيعة منه، والطبيعة إذا ظفرت بما تحب، آثرته على ما هو دونه عُدّ هذا سكرًا.ولو دققت النظر في حديث الرجل الذي فقد راحلته عليها طعامه وشرابه في الأرض المهلكة، فأيس منها ثم وجدها فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك: " أخطأ من شدة الفرح " ولم يؤاخذ بذلك، وكذلك إذا أخطأ من شدة الغضب لم يؤاخذ بذلك .وعلاج هذا السُكْر أن يلتزم الشاب حدّ التوسط في الفرح، فكم ممن أنعم الله عليه من الشباب أتى له ما يفرحه فجمحت به شدة الفرح، وتجاوز الحد فانقلب ترحًا عاجلًا، ولو بصر حاله، وعاش فرحه بسكينة لكان من أهل الوسط، ولجمع الله له الخير.ومنه سُكْر الشباب: وللشباب سكرة قوية، وهي شعبة من الجنون، تمثلت فيها قول من قال:سُكْرُ الشَّبابِ جُنونُ ... والنّاسُ فَوقٌ ودُونُ.ولو علم الشباب أن للعمر بداية ونهاية، وأنّ من كانت بدايته اتباع الهوى كانت نهايته الذُّل، والصّغار، والحرمان، والبلاء المتبوع بحسب ما اتبع من هواه، صار ذلك عذابًا يعذّب به قلبه.وكل هذه الأنواع من السكر مذمومة، تناقض البصائر، وتنحرف بالشباب عن طريق الجادة؛وعلاجها باستحضار القدوة :وأضرب للشباب مثلا من دأب الأنبياء: وهو سيدنا يوسف -عليه السلام- حين صبر عن المعصية: فكان صبره صبر اختيار، ورضا، ومحاربة للنفس، لا سيما مع قوة الأسباب التي توجد معها دواعي الموافقة؛ فإنه كان -عليه السلام- شابا، وداعية الشباب إليها قوية، وعزبًا ليس له ما يعوضه ويرد شهوته، وغريبًا، والغريب لا يستحي في بلد غربته مما يستحي منه بين أصحابه، ومعارفه، وأهله، ومملوكًا، وليس وازع المملوك كوازع الحر، والمرأة جميلة، وذات منصب، وهي سيدته، وقد غاب الرقيب، وهي التي دعته إلى نفسها، وحريصة على ذلك أشد الحرص، وتوعدته إن لم يفعل بالسجن والصغار، ومع هذه الدواعي كلها اختار ما عند الله.ولو كان أحد من الشباب اليوم مكانه لطاوع لأضعف هذه الأسباب، لكن عناية الله بالشباب بالغة، قدر قوتهم في التمسك بما أراد الله.وصلى الله على سيدنا محمد وآله والحمد لله رب العالمين.
مشاركة :