حرية الإبداع وانطلاقه بعيدًا عن كل الأسس الأكاديمية، كان هدفًا عند كثير من الفنانين التشكيليين الرواد، وهذا هو ما مكنهم من تأسيس مدارس فنية وابتكار طُرق وأساليب تُميزهم بين ملايين الفنانين، والحلقة الرابعة والعشرون من «بورتريه» تدور حول فنانة فتحت عينها على الثقافة والفن، هى الفنانة «تحية حليم». وُلدت تحية حليم بالسودان فى نفس عام انطلاق ثورة ١٩١٩ المصرية، ثم انتقلت مع عائلتها إلى مصر وتلقت أول دروسها التعليمية داخل القصر الملكى، حيث نشأت مع والدها كبير ياوران الملك فؤاد، ومن بعدها اتجهت للدراسة فى المدارس الفرنسية كعادة أبناء الطبقة الارستقراطية فى ذلك الوقت.انجذبت «حليم» إلى الفرشاة والرسم على اللوحات، فكانت تُعبر بكل حرية عما يدور بداخلها مُستخدمة الألوان الجذابة فى أعمالها، حتى بدأت أن تتعلم أسس وقواعد الفن على أيدى الفنان اللبنانى يوسف طرابلسى والفنان اليونانى جيروم، ثم اتجهت بعد ذلك إلى مرسم الفنان حامد عبدالله الذى تعلمت على يده الكثير برفقة مجموعة أخرى من الفتيات كان من بينهن إنجى أفلاطون وزينب عبدالحميد، وكانت تحية حليم حينها فى الرابعة والعشرين من عمرها، فتعلمت على أيدى «حامد» الذى تزوجها بعد عامين من مُقابلتهما وتزامن ذلك الوقت مع انتهاء الحرب العالمية الثانية فى ١٩٤٥.سافرت «حليم» برفقة زوجها الفنان إلى باريس، بهدف المزيد من التغلغل بداخل عالم الفن التشكيلى وتعلم الكثير منه، فالتحقا معًا بأكاديمية جوليان وتخرجا فى ١٩٥١، وكانت الفنانة حينها فى الثانى والثلاثين من عُمرها، وتميزت طريقتها الفنية بأسلوب خاص.فكتب عنها الفنان والناقد عز الدين نجيب قائلًا: «أسلوب تحية حليم أفضل شاهد على العلاقة الوطيدة بين المحلية والعالمية، فالرائى للوحاتها فى أى بقعة من العالم يُدرك من الوهلة الأولى عمق مصريتها، وكأن تلك اللوحات اكتشفت حديثًا داخل أثر فرعوني، أو كأنما صاغتها يد فنان فطرى من أعماق الريف، لاتنم عن صنعة متقنة أو قواعد أكاديمية أو استعراض لمهارات أسلوبية مبهرة، لكنها محملة بحس قوى بالبيئة، بلون الطمي، بملمس الجدران المتآكلة، بملامح الوجوه المصرية السمراء، بوهج العيون فى أقنعة مقابر الفيوم، بروح الرسوم الشعبية فى الكتب القديمة من بغداد إلى مصر، حيث يتضاءل الاهتمام بالتسجيل الحرفى للطبيعة، ليحل محله الاهتمام بالتعبير عن المعنى الكلى للموضوع».اهتمت «حليم» فى أعمالها بالتراث المصري، كما ركزت على الأبعاد السياسية والاجتماعية بإحساس فنى عالى ممزوج بلون طمى النيل، فبالرغم من سفرها إلى العاصمة الفرنسية باريس، لم تأخذ منها غير الحداثة الفنية مع الاحتفاظ بمصريتها وأصولها التى عبرت عنها فى أغلب أعمالها الفنية. كما كتب عنها وزير الثقافة الأسبق بدر الدين أبوغازي، مشيدًا بأعمالها وأسلوبها قائلًا: «اهتدت بصيرة تحية حليم الفنية إلى صياغة نسيج تصويرى باهر يمتزج فيه تراث البيئة على جوها النفسى بإدراك للاتجاهات التصويرية المعاصرة، مع امتلاك هبة نادرة، هبة إبداع لوحاتها نبض الحياة، والنفاذ إلى سر الموسيقى فى الألوان، القدرة على أن يكون للوحاتها حضور تشكيلى يستحوذ على الرائى بسحرها الخاص».عملت «حليم» مع زوجها الفنان حامد عبدالله فى مرسمهما الحر بموقعه بالقرب من ميدان التحرير بالقاهرة، ومرا سويًا على العديد من التجارب الفنية سواء فى مصر أو فرنسا بالرغم من اختلافهما فنيًا، حتى انفصلا فى عام ١٩٥٧ وكانت تحية حليم تبلغ من العمر حينها ثمانية وثلاثين عامًا، ثم انشأت لنفسها مرسمًا خاصًا بها فى الزمالك لتدريس الفن فى العام نفسه.حصلت «حليم» على العديد من الجوائز الفنية الهامة، منها جائزة مسابقة جوجنهايم الدولية فى نيويورك وهى فى التاسعة والثلاثين من عمرها، وتلتها مجموعة من الجوائز المحلية مثل جائزة الدولة التقديرية، ثم جائزة الدولة التشجيعية فى التصوير مع وسام العلوم والفنون منذ عام ١٩٦٩، واستمرت فى إثراء الحركة التشكيلية المصرية بالعديد من الأعمال المُختلف ذات البصمة المتميزة والخاصة بها، وذلك حتى فارقت الحياة فى ٢٠٠٣، تبلغ من العمر أربعة وثمانين عامًا.
مشاركة :