تكشف التشريعات التي تفرضها البلدان الأوروبية لحظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة، عن تصاعد الفكر اليميني والمحافظ الذي يسعى لمكافحة ما يطلق عليه “الغزو” الإسلامي للفضاء الأوروبي العام. غير أن تأملا حثيثا لهذه التشريعات، يكشف أن اللجوء إلى تلك التشريعات يطال أقلية بسيطة من عدد المسلمين، بما يجعل وقعها الإعلامي أعلى من وقعها الحقيقي، خدمة لأجندات سياسية في المعارك الداخلية والتنافس على السلطة داخل هذه الدولة أو تلك. والقانون الجديد المتعلق بحظر ارتداء الحجاب في النمسا هو مثال جديد على سلسلة تشريعات في هذا الشأن كانت قد اعتمدت في بلدان أوروبية أخرى. ووصفت منظمات أهلية في النمسا قرار حكومة فيينا حظر ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية بأنه تمييز ضد المسلمين، كونه لا يحظر تعليق الصليب وارتداء القلنسوة اليهودية. ويرى مراقبون أن عبارة “يُحظر على طلاب المدرسة الابتدائية ارتداء لباس يغطي الرأس” في القانون المذكور، تستهدف بنات المسلمين، وأنها تنتهك مبدأ المساواة وحرية الأديان الذي ينصّ عليه دستور النمسا”. ومن الواضح أن طرفي الصراع يستهدفان فتيات صغيرات لا وعي لهن بما يجري، فمن ناحية تتولى الأسرة إجبارهن على لباس دون اختيار حر منهن ومن ناحية ثانية يتم التضييق عليهن من دول غربية وتحميلهن مسؤولية موقف لا اختيار لهن فيه. كما أن للبعد الدعائي لمسألة حظر الحجاب والنقاب جانبا مؤذيا للجاليات المسلمة في أوروبا، بحيث يسهل الخلط لدى العامة ما بين مكافحة ظاهرة نافرة وهامشية وبين مسألة نظرة الرأي العام للوجود المسلم في أوروبا. ويحظر عدد من الدول الأوروبية الحجاب والنقاب. وفرضت سويسرا عام 2016 قانونا يمنع المسلمات من ارتداء النقاب، سواء كان يغطي العينين أو يظهرهما، ويمكن أن تواجه من ترتديه غرامة تصل إلى 5 آلاف يورو.وكانت فرنسا سباقة وانتهجت تشريعات في هذا الشأن منذ عام 2004 من خلال منع الطلبة في المدارس الرسمية من إظهار أي رموز دينية. وذهبت باريس أبعد من ذلك عام 2011 بفرض حظر كامل على غطاء الوجه، وتغرم المرأة التي ترتديه بمبلغ 150 يورو، وأي شخص يجبر امرأة على ارتدائه يغرم بمبلغ يصل إلى 30 ألف يورو. ويعتقد دارسون للتوتر القانوني الجاري حاليا في مقاربة ظاهرة الهجرة الإسلامية في أوروبا أن الأمر يعود إلى سببين مباشرين. الأول تنامي الوجود الكمي للمسلمين في أوروبا، لاسيما في العقود الأخيرة، معطوفا على تحوّل هوياتي نوعي طرأ على سلوك الجاليات المسلمة وعلى مظاهرها اليومية منذ قيام ثورة 1979 في إيران وتنامي ظاهرة “الصحوة” داخل السعودية وبقية دول المنشأ المسلمة.والثاني ارتفاع أسهم خطاب أحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية في أوروبا، مستفيدة من تعثر الأحزاب التقليدية الأوروبية الكبرى في التعامل مع معضلات أوروبا الاجتماعية المتعلقة بالعمالة والبطالة والأمن والاختلالات الاقتصادية، والتي لطالما ربطت بظاهرة الهجرة والتخبط في استقبال المهاجرين وفق سياسة الحدود المفتوحة. واتبعت بلجيكا خطى مشابهة لفرنسا، وأقرت عام 2011 قانونا يحظر النقاب، وأي نوع من الملابس يمكن أن يخفي وجوه الناس في الأماكن العامة، كما يمكن أن تتعرض المرأة المخالفة للسجن لمدة 7 أيام، أو دفع غرامة تقدر بـ1378 يورو. وحظرت إيطاليا الحجاب أو تغطية الوجه بالنقاب في الأماكن العامة منذ 1975، وفي 2015 منعت منطقة لومبارديا ارتداء النقاب والحجاب في المكاتب العامة والمستشفيات، وفي 2010 فرضت مدينة نوفارا قيودا على غطاء الوجه. وفي إسبانيا فرضت العديد من مناطق إقليم كتالونيا قوانين ضد الحجاب والنقاب، وعلى الرغم من إلغاء المحكمة العليا الإسبانية الحظر في بعض المناطق، مُعتبرة أنه يحدّ من الحريات الدينية، إلا أن أجزاء أخرى في إسبانيا ما زالت تطبقه استنادا إلى حكم المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في عام 2014. ويلفت مراقبون إلى أن علاقة مصالح متبادلة جمعت، للمفارقة، خطاب اليمين المتطرّف وخطاب الإسلام السياسي، لاسيما ذلك الصادر عن الجماعات الكبرى التي وقفت وراء عمليات إرهابية ضد بلدان أوروبية، لاسيما فرنسا وبريطانيا وألمانيا وبلجيكا. ويضيف هؤلاء أن اليمين المتطرف حصد مزيدا من الأنصار في كل مرة كان الإرهاب الذي ترتكبه جماعات إسلامية يضرب مدن أوروبا، فيما وسّعت هذه الجماعات الإرهابية كما بقية تيارات الإسلام السياسي من حضورها داخل الجاليات المسلمة الخائفة من تنامي ظاهرة الإسلاموفوبيا.وينسحب الجدل على ألمانيا أيضا حيث عارض مسؤول محلي في ولاية تورينجن الألمانية، هيلموت هولتر، حظر ارتداء الحجاب في المدارس الابتدائية. وقال هولتر “لا أرى جدوى من حظر الحجاب”، لافتا إلى أنه يتعين إعطاء المسلمين فرصة لإظهار دينهم وممارسته علنا. وقال “بالنسبة لي من الأهم أن نؤكد على قيم الدستور والتعايش الديمقراطي والإنساني المشترك، بصرف النظر عن ارتداء الحجاب أو عدم ارتدائه”. وفي المقابل، طالبت مفوضة الحكومة الألمانية لشؤون الاندماج، أنيته فيدمان-ماوتس، بدراسة حظر ارتداء الحجاب للأطفال في المدارس. وترى أوساط داخل الجاليات المسلمة أن مكافحة التطرف هي آلية ذاتية تمارسها هذه الجاليات بشكل يومي من ضمن سعيها للاندماج، وأن جماعات اليمين المتطرف كما جماعات الإرهاب الإسلامي تتقاطع في حلف موضوعي لاستهداف الجاليات المسلمة . وعلى الرغم من أن دولا أوروبية عديدة قد تتالت على فرض تشريعات ضد الحجاب، فإن الأمر لم يؤثر صعودا ولا هبوطا على نسبة ارتدائه، إلا أن هذه القوانين قد تكون قد أصبحت عائقا أمام تنامي الظاهرة بصفتها موضة وتقليعة تتبعها النساء عرضا. وعلى الرغم من التحفظات التي أبدتها الجاليات المسلمة على مسألة فرض تشريعات ضد العلامات الدينية للمسلمين دون بقية الأديان، إلا أن الأمر لم يشكل “فاجعة” لتلك الجاليات.
مشاركة :