تظل الدراما الاجتماعية مرآة تعكس حياة المشاهدين، فموضوعاتها قريبة من نمط معيشتهم، وتفاصيلها تلتصق بهمومهم وآلامهم وطموحاتهم، ونهايتها السعيدة تمنحهم جرعات أمل بوجود شعاع نور في نهاية النفق وأن المستقبل يحمل لهم الأفضل. لم يشهد الموسم الفني في رمضان الحالي بمصر حضورا معتادا للأعمال الاجتماعية، وخالف التوقعات بعودة قوية لذلك النمط من الدراما بعد نجاح تقديمه في أعمال لاقت شعبية طاغية مثل “أبوالعروسة” و”سابع جار” و”رمضان كريم”، وحتى الأعمال ذات الطابع الاجتماعي الظاهر مثل “حكايتي” و”حدوتة مرة” و”قمر هادي”، تدور معظم أحداثها حول الثأر والانتقام وتصفية الحسابات، ما جعلها لا تقنع الجمهور بأنها اجتماعية فعلا. صدمة الجمهور يعتبر “أبوالعروسة” الذي فضّل منتجوه عرض الجزء الثاني منه قبيل شهر رمضان نموذجا للدراما الاجتماعية التي تركت انطباعات جيدة لدى الجمهور، بمحاولته استعادة المفاهيم العائلية المفقودة داخل الأسر العربية بوجه عام، ودعوته للحب والترابط الأسري.قبله حظي مسلسل “سابع جار” الاجتماعي، الذي عرض على جزأين بردود أفعال إيجابية بين الجمهور، رغم تضمينه أفكارا جريئة، كالحمل خارج الزواج، والأم العزباء، لكنه عبر عن نمط الحياة اليومية لغالبية البيوت ليشعر المشاهدون بأن أبطال العمل شبيهون لهم. يقول السيناريست محمد رجاء لـ”العرب”، الدراما الاجتماعية محببة للجمهور لملامستها شخصياته وواقعه، لكن تظل قدرة كاتب السيناريو المحك لنجاحها، ومدى تمكنه من نسج أبطال من لحم ودم لحوار حقيقي وقريب من الشارع وغير مفتعل، وفتح المجال للجمهور للانتقاء من بين الشخصيات من يمثله ويتوحد معه في همومه ومشكلاته. ويعتبر محمد رجاء من كتاب الدراما الاجتماعية وعرض له قبل موسم رمضان مسلسل “قيد عائلي” عن صراع محتدم بين شقيقين تتورط فيه أسرتيهما قبل أن يقررا تذويب الخلافات وعودة المياه إلى مجاريها، وشارك في موسم رمضان الماضي بمسلسل “بالحجم العائلي” للفنان يحيى الفخراني عن رجل أعمال يحاول لم شمل أسرته المفككة، وقبلهما مسلسل “الحساب يجمع″ للفنانة يسرا، عن خادمة تجاهد لضمان حياة أفضل لبناتها. ورغم انتماء الأعمال الصعيدية في الماضي لحظيرة المسلسلات الاجتماعية، إلاّ أنها خلعت جلدها مؤخرا وهجرت التركيز على الأسرة والبيئة وعاداتها وتقاليدها، لتجعلها قضايا على الهامش وتتبنى طابع الحركة مثل مسلسل “ولد الغلابة” لأحمد السقا، والذي يركز على تجارة الأنواع الجديدة من المواد المخدرة. وتلقى الجمهور صدمة في بعض الأعمال الرمضانية التي لا تنقل بدقة أوضاع الطبقة المتوسطة، في ما يتعلق بنمط المساكن أو نوعيات الطعام والملابس، وبدت كأنها تتحدث عن مجتمع آخر لا تتعدى مشكلاته الخيانات الزوجية والألم من نار الحب الضائع. وأضاف رجاء، لـ”العرب”، أن شخصيات الدراما الاجتماعية أساس القصة ومن الضروري الغوص في الجوانب الداخلية لها، ويجب تقديمها بصورة واقعية لتجمع ببن الخير والشر في الوقت ذاته، فلا يوجد إنسان ملائكي وآخر شيطاني يعيشان بشخصية واحدة على طول الخط. صحيح أن شخصية الإنسان تجمع قدرا بين الأبيض والأسود، وتظهر وفقا للمواقف والمشكلات التي تصادفها، لكن يقع بعض كتاب السيناريو أحيانا في فخ التنقلات غير المنطقية بين الخير والشر للشخص الواحد، ويتحوّل الطيب وكاره العنف إلى محترف للقتل والتدمير بدم بارد من دون مقدمات. محاكاة الدراما التركية يعتبر البعض من النقاد المحاولات الأخيرة في الدراما الاجتماعية الناجحة جماهيريا “فاترة” ولا تمت للواقع بصلة وتعاني من وقوعها أسيرة لمحاكاة الأعمال التركية، بما تتضمنه من قصور أنيقة تعج بالتحف والأنتيكات والسيارات الفارهة والملابس باهظة الثمن، ما يمثل استفزازا للفقراء وابتعادا عن واقعهم. ويقع صناع الدراما الاجتماعية الجديدة في ورطة، حال مقارنتهم بالأعمال القديمة التي امتازت بتقديمها حكايات عن طبيعة الحياة الأسرية والعلاقات الإنسانية الإيجابية في العمل والمنزل والمدرسة فكانت أشبه بالمرآة التي يرى فيها المشاهد نفسه.وأكد الناقد الفني طارق الشناوي أن الدراما التلفزيونية نشأت اجتماعية في الأصل، ما أعطى الأعمال القديمة عمرا أطول دون أن تفقد جمهورها، ولا تزال مسلسلات تم إنتاجها قبل سنوات بعيدة تثير إعجاب المشاهدين، لأنها تعبر عن فترات زمنية وتاريخية بأمانة. وتحظى حاليا بعض الأعمال المصرية، مثل “القاهرة والنَّاس″ و”أولاد آدم” و”ليالي الحلمية” و”أرابيسك” و”المال والبنون”، بمشاهدات كبيرة على القنوات المعنية بإذاعة التراث، وتنافس الأعمال الرمضانية الجديدة، على الرغم من مرور سنوات طويلة على إنتاجها، بسبب قدرة كتاب السيناريو على تضمينها مواقف تعطيها حياة أبدية تتجاوز عجلة الزمن. ودفع غياب الدراما العائلية الجهور إلى الارتماء في أحضان القنوات الدرامية التي تبث التراث القديم على شبكة الإنترنت، لتشهد مسلسلات قديمة معدلات تحميل مرتفعة من موقع يوتيوب مثل “حديث الصباح والمساء”، و”الشهد والدموع″، و”رحلة أبوالعلا البشري”، و”أبنائي الأعزاء شكرا” و”عائلة شلش” باعتبارها تعبر عن جزء يخشى على فقدانها من الذاكرة. يبرر المنتجون هجرانهم للدراما الاجتماعية بأن أمزجة مشاهديها متغيرة، فيريدون تنويعا مستمرا بين الحركة والكوميديا لمنع رتابة الأحداث التي تشهدها الأعمال العائلية أو تضمينها كما من المآسي التي تذكر المشاهد بمعاناته. ومال الإنتاج الدرامي خلال السنوات السبع الماضية باتجاه العنف والبلطجة وجرائم القتل مع سرد الأحداث السياسية في سياق العمل قبل أن تعود الدراما الكوميدية إلى التقدم. وأوضح الشناوي لـ”العرب” أن ابتعاد موسم رمضان عن الدراما الاجتماعية لصالح الأعمال البوليسية والعنف والصراع بين مراكز القوى، سببه تقلص المسافة بين شاشتي السينما والتلفزيون، وتحكم الجانب التجاري فيهما بهدف استدراج شريحة معينة من المشاهدين الذين يفضلونها، بصرف النظر عما تحتاجه الأسرة بوجه عام. يقع صناع الدراما الاجتماعية الجديدة في ورطة، حال مقارنتهم بالأعمال القديمة التي امتازت بتقديمها حكايات عن طبيعة الحياة الأسرية والعلاقات الإنسانية الإيجابية ومن هناك، ربما، تحتاج الدراما الاجتماعية إلى تغيير أفكارها التقليدية التي تعبر عن العلاقة بين الزوج وزوجته أو الصراع بين عائلتين أو خلافات الميراث لتتضمن توجهات جديدة تعالج تغيرات الأسرة في عصر التكنولوجيا وتحدياتها، بعيدا عن العنف المبالغ فيه، وأن ترصد أحداثًا من قلب المجتمع. ويمثل التراث السينمائي فرصة لإعادة تدويره إلى دراما تناسب العصر بشرط التركيز على الحوار الخصب والمعالجة المبتكرة مع نجاح مسلسلات مثل “الطوفان” و”العار” و”الباطنية” التي تم اقتباسها من أفلام سينمائية، لكن إثر معالجات الحوار صار أكثر هدوءا بما يتماشى مع طبيعة جمهور الدراما. ووفقا لبعض النقاد فإن اشتراطات القنوات العارضة، بألاّ يقل المسلسل عن ثلاثين حلقة وراء العزوف عن إنتاج الأعمال الاجتماعية، فكتاب السيناريو يجدون صعوبة كبيرة في كتابة 900 دقيقة عن مشكلات عائلية فيميلون إلى الحركة التي تحمل المزيد من العناصر البصرية والمطاردات، وتتقلص معها مساحة الحوار. ويسعى هذا النوع من الدراما إلى خلق مجتمع مثالي متوازن يخلو من مشكلات الصراعات القيمية، والتي تعكس الواقع وتنقله بكل أمانة على اعتبار أنها تتأثر بالبيئة وتؤثرفيها وبشخوصها الذين يطرحونها وفقا لما تحدده ضوابط العقلية الجماعية أو التقاليد والأعراف السائدة.
مشاركة :