يستضيف مركز جورج بومبيدو في العاصمة الفرنسيّة باريس معرضا بعنوان “ما قبل التاريخ-لغز حداثيّ”، ونشاهد فيه العشرات من الأعمال الفنيّة والأحفوريات والوثائق والأفلام التي تحاول الإحاطة بمفهوم “ما قبل التاريخ” والتصورات المرتبطة به، إلى جانب الإضاءة على الرعب الذي تحويه تلك الحقبة والمترافق مع دهشة وإعجاب شديدين، إذ نكتشف في المعرض بدايات ظهور مصطلح “ما قبل التاريخ” في منتصف القرن التاسع عشر في أوروبا، مع بداية ظهور البعثات الجغرافيّة والحملات الاستكشافيّة، وازداد الولع العلميّ بتلك الحقبة مع اكتشاف المستحاثات والأشكال الثقافيّة المغرقة في القدم، وأصبح التراب نفسه مادة غنيّة للبحث، بوصفه يحوي “كل التاريخ” ويختزنه في طبقاته، لتبدأ المتاحف الطبيعيّة بتبني هذه الحقبة وتقديم متخيلاتها عنها مستعينة بالفنانين والباحثين، الذين أسرتهم تلك الأزمنة المغرقة في القدم. تحولات فينوسنشاهد في المعرض واحد من أشهر الاكتشافات الأحفورية؛ منحوتة “فينوس لوسبوج” التي يعود تاريخها إلى 25000 سنة قبل الميلاد، واكتشفت مطلع العشرينات، والمثير للاهتمام أن المنحوتة المصنوعة من العاج، يقال إنها تمثل الجسد الأنثوي في كامل أشكاله، أثناء الولادة والحمل والموت، ما أسر الفنانين المعاصرين في بدايات القرن العشرين، فبيكاسو امتلك نسختين منها، وألهمته لاحقا بإنجاز منحوتة مشابهة بعنوان “رأس امرأة” وكأنه يمثل الخصب “تكعيبيّا” إن جاز التعبير. لاحقا، ألهمت فينوس تلك النسويات، واستخدمت كرمز لكسر التأويل الذكوريّ للتاريخ، كحالة لويز بورجوا ومنحوتتيها “آلهة هشة” و”آلهة غير مؤذية”، والتي تختلف عن تلك الأصليّة أنها بلا يدين، وتقول إن سبب ذلك أنها ضعيفة لا تستطيع الدفاع عن نفسها، محررة إياها من المتخيل الذكوريّ المحيط بها، ذاك الذي حوّلها إلى رمز فيتشي وشهواني في بعض الأحيان، ومستعيدة منحوتة فينوس الشهيرة، تلك التي لا تمتلك يدين. شعرية نهاية العالمكانت حقيقة خلو الأرض من البشر لفترة طويلة مدهشة لفناني العشرينات، إذ حرّكت فانتازمات نهاية العالم، وخصوصا بعد الحرب العالميّة الأولى، ودفعت الكثيرين إلى تقليد ما تركه البشر الأوائل من آثار وتبني أسلوبهم، إذ نرى طبعات الأيدي التي أنجزها كانديسكي وتخطيطات ماكس إرنست، بوصفها علامات متروكة في حالة انتهت البشريّة وعادت الأرض مقفرة، وكأن الفنانين يصنعون آثارهم الأحفورية الخاصة، تاركين إياها لمستكشفين قادمين، حتى يقرأوا منها الظاهرة البشريّة ويتعرفوا رمزيا على الأسباب التي أدّت إلى تلاشيها. الكهف كمحرك فنّي الاكتشاف الذي أثار مخيلة الكثيرين كان الكهف، بوصفه فضاء الاستقرار البشريّ الذي حملت جدرانه أشكالا ورسوما مختلفة، والتي ما زالت الحركة النقديّة محتارة في تصنيفها، أي هل ما نراه على الجدران فن؟ بالتالي هل تعبير “فنّ الكهوف” دقيق، أم أن ما على الجدران إلا مجرّد تمثيلات للحياة اليومية ووسيلة للتواصل؟ هذه التساؤلات لم تهدد التعبير الفنيّ، إذ تبنى خوان ميرو في السبعينات بساطة هذه الرسومات وقدرتها التعبيرية في لوحته “أيد وطائر في الفراغ”، وكأننا أمام حوار جماليّ مع أثر عن ماضٍ سحيق، هذا الحوار أساسه أشد أشكال الرسم طفوليّة، وهي أثر راحة اليد.ذات الشيء نراه في لوحة لإيف كلان، والتي يستخدم فيها اللون الذي اخترعه (أزرق كلان)، ليُسجّل جماليا الآثار التي تركتها المؤديتان اللتان أنجزتا عرض أداء من إخراجه في الستينات بعنوان “مقاييس البشر”، لتبدو العلامات والمساحات اللونيّة التي أمامنا أشبه بسؤال نقدي عن قيمة “أثر” العمل الفنيّ بعد نهايته، وما مدى “جماليته” و”فنّيته”، وهو ذات السؤال المطروح على رسومات الكهوف، فربما هي مجرد تحذيرات من وحوش الأرض موجهة لمن سيأتون لاحقا. فضاء الكهف وتكوينه ألهم المعماريين أيضا، حيث نرى مجسمات لتصاميم فريدريك كيسلر بعنوان “بيت لا نهائي”، والتي يحاول فيها خلق فضاء يتداخل مع التكوين الطبيعي ويسمح للهواء والضوء بالتحرك بصورة مغايرة عن تلك التقليديّة المرتبطة بالنوافذ والأبواب، كما أن انعدام الزوايا في تصاميمه يتيح حركة انسيابيّة ضمن هذا “البيت”، الذي تغيب عنه تقسيمات واضحة للفضاءات الداخليّة ما يجعله كالكهف في بساطته، لكونه “يحتوي” كل وظائف الحياة وأنشطتها. أما مغامرة إيجاد الكهف المناسب للاستقرار فنراها في أعمال التجهيز التي أنجزها المهندس المعماريّ كريستيان كيريز بعنوان “فضاءات عَرَضية”، وهي عبارة عن كتل ضخمة من مواد اصطناعيّة، تتيح للزائر تسلقها واكتشافها والتحرك ضمنها، ما يترك له حرية ارتجال الوظيفة التي يمكن أن يشغلها كل جزء منها، فهي ليست مساحات مفتوحة ولا مساحات مسبقة الصنع، بل فضاء يتركُ للزائر حرية تلمس العمارة بالمعنى الحرفي واكتشاف الاحتمالات التي لا تظهر عادة في الفضاءات المصممة مسبقا.
مشاركة :