الكتابة الروائية ليست موقفًا فكريًّا

  • 6/3/2019
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

يرى الروائي السوري خليل النعيمي أن هدف الكتابة ليس قول الحقيقة، ولا مطابقة الواقع، وإنما التحريض، ولكن ما التحريض في حال الكتابة الروائية؟ وعن أي تحريض يمكن أن تتكلَّم الرواية خارج المكان؟ أي مكان نعني؟ وأي خارج؟ أليس الخارج نوعًا من الداخل؟ لا! بالتأكيد. إنه مجموعة من العناصر والوقائع والموجودات والأعراف والمعلومات والأحاسيس والسلوكات وما شابه ذلك، والرواية، نوع معين من الكتابة، تواجهه، والأصح القول: الكتابة الروائية. ويؤكد النعيمي في جلسة الشهادات الأدبية التي ترأسها الناقد د. إبراهيم السعافين ضمن فعاليات ملتقى القاهرة الدولي السابع للإبداع الروائي، أن "الكتابة الروائية" وحدها قادرة على الإبحار في هذا الخضمِّ المتلاطم من المشاعر والاعتبارات، وهي لذلك جديرة بأن تقودنا إلى نقطة الصفر: "الكائن في مكانه"، في مكان الكتابة. هذا هو المغزى الوجودي لعملية الإرهاق الإبداعي الذي يعيد النظر في كل شيء، وأول شيء يعيد النظر فيه هو مسألة الكتابة، ومكانها "مكانها النفسي" أولًا، ومن بعد "الجغرافي" إذا كان ثمة مكان جغرافي للكتابة الروائية. ويوضح النعيمي أن الرواية هي علم اللاممكن. لأن كل ما هو ممكن مفهوم ومعيش. نحن لا نتحدث عن رواية متاحة للجميع، لأن الإتاحة فضَّاحة. إننا نتحدث عن مفهوم "الوجود الروائي" لدى من يمارس الكتابة الروائية. ويؤكد خليل النعيمي أن الكتابة الروائية أغنى من الواقع، لأنها تملأ "الفراغات المهملة" في الحياة بأشياء مبتدعة من الواقع اللامرئي بالنسبة إلى من لا يكتب، ولكن أين نكتب؟ وفي أي مكان؟ ما دور المكان في الرواية؟ وإذا كنا نعيش في مكان، لماذا نكتب عن مكان آخر، أو منه؟ لماذا يضطر الكائن إلى مغادرة المكان؟ إلى هجره، أو استبداله، أو الابتعاد عنه مؤقتًا؟ ما ذلك الوهْم الذي يربط الكائن بمكان محدد؟ أهي الهوية، أم الميلاد، أم التربية، أم السلطة التي تريد أن تسيطر على رعاياها؟ ويشير إلى أن المكان هو فلسفته، وهذه تقتضي لغةً وأفكارًا. الأفكار بلا لغة لا وجود لها. الرواية إذن هي لغتها، وليست مكانها، ولا مكان كتابتها، وحتى عندما يكون للمكان حضور فيها، فحضوره لغوي، أو هو غير معروف فيها، بما هو معروف به تمامًا، أو "المكان في مكانه". إنه "مكان روائي". مكان كتابتها، الذي لن يغيِّر من ماهيتها شيئًا كثيرًا، لأن ماهية الرواية لغتها. ويرى أننا لا نكتب عن الأمكنة، ولكن عن الفكر الذي يتحكَّم فيها. لكن الكتابة الروائية ليست موقفًا فكريًّا، وإن كانت أدواتها الأفكار، وليست سياسة، وإن كانت تعني كثيرًا بالسياسة. الرواية امتزاج حميميٌّ بين لغتها وفن قولها وتصوُّر الكاتب المبدع للعالم، وهي من أجل إيضاح ذلك ترتكز على علامات وإشارات، وتعتمد على دلالات خاصة بها. نحن لا نُنَظِّر لما كتبناه من قبل، وإنما لما سنكتبه منذ الآن، لما لم نكتبه بعد. هذا هو درس الكتابة الروائية: أن نتعلم باستمرار. إنه الإدراك الدائم لما نعيش، ونكتب، في الوقت نفسه. أما الروائية المصرية سهير المصادفة فتقول في شهادتها الأدبية "منفي واحدٌ.. يكفي ويزيد": في أوائل تسعينيات القرن العشرين، قررت أن أهاجر إلى بلد بعيد، وأظل هناك إلى الأبد لأكتب، كنت قد قرأت: "أجنحة متكسِّرة"، و"النبي"، و"الأرواح المتمردة" لكاتب المهجر الشهير جبران خليل جبران، وكنت مفتونة به، فارتبطت الكتابة لديَّ آنذاك بالمهجر أو المنفي كما نطلق عليه الآن، وقلت لنفسي أيضًا: مع مكانة الكاتب المالية والأدبية في العالم العربي، لن أستطيع أبدًا مواصلة الكتابة، وإنجاز مشروعي الإبداعي، علاوة على كل ما لاقيته طوال فترة دراستي الأولى ومنذ المرحلة الإعدادية، حيث عرفت جيدًا أنني ابنة ثقافة عربية تكافح منذ قرون لتجاوز عادات وتقاليد تحاصر المرأة وتزدريها وتحدد لها أدوارًا يمكننا إحصاؤها على أصابع اليد الواحدة، فلن أنسى أبدًا سخرية مدرس العلوم في العام الأوَّل من هذه المرحلة، وكنت أقرأ خربشاتي وبعض الأبيات الشعرية لرفيقاتي، فقال لي ولهنَّ: هل أسمعكنَّ قول ابن أبي الثناء في الإصابة في منع النساء من الكتابة، وانطلق بحماسٍ وبصوت مقرئ القرآن في المدافن يقول: "أما تعليم النساء القراءة والكتابة فأعوذ بالله، إذ لا أرى شيئًا أضر منه بهنَّ، فإنهنَّ لما كنَّ مجبولات على الغدر، كان حصولهنَّ على هذه المَلكة من أعظم وسائل الشر والفساد، وأما الكتابة فأوَّل ما تقدر المرأة على تأليف الكتابة بها، فإنه يكون رسالة إلى زيد ورقعة إلى عمر وبيتًا من الشعر إلى عزب وشيئًا آخر إلى رجلٍ آخر، فمثل النساء والكتب والكتابة كمثل شرير سفيه تهدي إليه سيفًا أو سكير تعطيه زجاجة خمر، فاللبيب من الرجال مَن ترك زوجته في حالة من الجهل والعمى فهو أصلح لهنَّ وأنفع". وتواصل المصادفة قولها: كنتُ لا أعرف أيامها ما معنى الوهابية التي انتصرت على هوية مصر الإبداعية والفنية منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، كنت أتابع فحسب التغيُّر المجتمعي الكبير: تحجيب الفنانات اللاتي أحببتهنَّ، شكل الجامعة التي دخلتها، وتحول ألقاب النساء التي كانت: "مدموازيل"، و"آنسة"، و"مدام"، و"هانم" أو "أستاذة"، و"دكتورة" إلى لقب: "الحاجة" لمَن هم بعد الثلاثين من أعمارهن، أو "أختي" للفتيات الصغيرات، وتكاثر أشباه مدرس العلوم ذاك، وقتها عرفت أنهم جميعًا ينتمون إلى مذهب محمد عبدالوهاب المتطرِّف، وعرفت أنهم حتمًا سيسقطون بعد حين مهما واصلوا نجاحاتهم في محو هوية مصر. وتشير أنه مع أوَّل فرصة جاءتني سافرت إلى موسكو لاستكمال دراستي، وإعداد نفسي لأظل في المنفي إلى الأبد. قرأت بهوس كلَّ الأدب الروسي الكلاسيكي، ومشيت في الشوارع التي مشى فيها دوستوفيسكي وتشيخوف وجوجل وبولجاكوف وبوشكين، وكنت قد جهَّزت ديوانين للطبع هما: "هجومٌ وديع"، و"فتاةٌ تجرِّب حتفها"، وبدأت في كتابة أولى رواياتي: "لهو الأبالسة"، ولكنني توقفت بعد انتهاء الفصل الأوَّل من الرواية، وفتحت نافذتي على الثلج المتراكم أمامها في ليلة رأس السنة، وأخذت ــ حرفيًّا ــ أتشمم هواء البرد القارس، علَّني أستطيع اقتناص ذكرى لرائحة نسمات برد ديسمبر في مصر، ولكنني لم أشمَّ شيئًا، بل شعرت ببرودة دمي، وبرودة النص على طاولتي، وكأنه أصبح جثة هامدة، صارت ذاكرتي صفحة بيضاء، وكنت لا أرى أمامي إلا الثلج وهو يعيد تشكيل نفسه إلى ما لا نهاية، اختفت أصوات الباعة الجائلين، وضجيج شوارع القاهرة التي لا تنام، وأبواق السيارات المزعجة، وصوت الأذان المتكرر خمس مرات في اليوم، ونواقيس الكنائس، ومذاق رياح الخماسين، وهي تكاد تقتلع جسدي النحيل من الأرض اقتلاعًا، صهيل أجساد المارين الحار الذي يدفعهم دفعًا إلى المشاجرة طوال ساعات النهار. وتلخص الكاتبة ضحى عاصم شهادتها في رؤوس موضوعات بقولها: سيكون أهم محاور حديثي الدافع إلى الكتابة وعلاقة الكاتب بفكره الإبداعي، هل توجد حتمية لوجود علاقة للكتابة بدور مجتمعي، ما ينتظره الكاتب كمردود لعمله الإبداعي، علاقة الكاتب بالمؤسسات الثقافية سواء الرسمية أو مؤسسات المجتمع المدني، الصحافية الثقافية ودورها في تقديم الأعمال الأدبية، لمحة عن التجربة الإبداعية الخاصة بي في فن الرواية وعلاقته بالكيان المجتمعي والوحدة الإنسانية، فن الرواية بين المحلية والعالمية، وذلك تطبيقًا على التجربة الإبداعية الخاصة بي. وتحت عنوان "خطوات" يدلي الكاتب اليمني محمد الغربي عمران فيقول: حين فكرت في كتابة الرواية اتجهت لقراءة التجارب الروائيةٍ لعددٍ من الكتابِ، وأبرزها "ثلاثية حول الرواية" ميلان كونديرا، ظانًّا أني سأجد وصفة محددة يمكنني بعدها أن أصبح روائيًّا، لأكتشف بأن عليَّ أن أقرأ الحياة التي نعيشها، والاستمرار في قراءة دائمة ومتنوعةِ بما فيها تلك التجارب، ولذلك انتهجت القراءة المنظمة والدائمة، لأجد أن أعمالًا بعينها تدفع بي للبدء بالكتابة. بعد أن وجدت نفسي محملًا بمشاهد لم أتخيلها يومًا، وتقنيات متعددة زادت من أفق خياراتي، ومن تلك الأعمال: رواية "باولا" للفنزويلية إيزابيل الليندي، التي أزالت رهبة البداية بسهولة بوحها المتواصل لابنتها السادرةِ في غيبوبتها؛ لأكتب أولى رواياتي "مصحف أحمر"، معتمدًا أسلوب المراسلات بين شخصيات العمل لتتعدد أصوات الرواة. بعد مصحف ظلت أفكار أخرى تعتمل فيَّ، لأختار منها عصر الدولة الصليحية في اليمن، ولم أشرعْ في الكتابة إلا بعد قراءات ذات صلة بالصراع لفاطمي العباسيين، ومن أهم تلك الكتب "الصليحيون والحركة الفاطمية في اليمن"، وكانت روايتي الثانية "ظلمة يائيل"، متخذًا من شخصياتٍ هامشيةٍ شخصيات رئيسة. تبعتها بالرواية الثالثة "ملكة الجبال العالية"، وهي الجزء الثاني لظلمة. بعد ذلك ظل موضوع الثورة اليمنية يشغلني، لأجد ضالتي في قراءةِ سير شخصياتٍ يمنيةٍ ومذكراتٍ من شاركوا في ثورة 1962 من القوات المصرية، لتأتي مذكرات "الإرياني" ثاني رئيس للجمهورية لتدافعني بنسج" الثائر" روايتي الرابعة، وهكذا وجدت إيقاعي يستمر بين القراءة لعدة أشهر.. بعدها أشرع لكتابة عمل جديد. وكانت الرواية الخامسة "حصن الزيدي" ثم السادسة "دار الشريفة" الماثلة للطبع على نفس الإيقاع، وهكذا لم أجد وصفة بعينها.

مشاركة :