التنوير والإصلاح الديني

  • 6/3/2019
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

يتعامل كثيرون مع مفهوم التنوير وكأنه قائمة من المشاريع العقلية القابلة للتوصيف الواضح والمحدد، أو كأنه برنامج ثقافي متماسك بالإمكان تطبيقه على أي مجتمع، مهما كانت خلفيته الثقافية والدينية والتاريخية. إن الإيمان بقوة العقل البشري، وقدرته على تغيير المجتمعات وتحرير أفرادها من قيود العادات والعقائد والخرافات، يكون عبر تعليم الإنسان وتدريبه على استعمال عقله لمناقشه هذه القيود مناقشة عقلانية، فقيم التنوير قائمة أساسا على مبدأ العقلانية. ولافتات التنوير صارت شعارات يحملها السياسيون وأرباب الاستعمار، لإضفاء بُعدٍ أخلاقي على حملاتهم لاستغلال قطن وتوابل الشعوب تحت الاستعمار. ما زال التنوير موضع جدل حتى عصرنا الحديث، وما زال مفهوم التنوير بلا تعريف محدد وواضح، مع أن كل أحداث الإصلاح الديني في أوروبا تنسب إلى التنوير وإلى قيم العقلانية، وكل التبدلات الاجتماعية والدينية التي تعرضت لها فرنسا، يعود فيها الفضل إلى التدرب على استعمال العقل والجرأة على استخدامه، ولولا المناظرات الكبرى بين العقل والإيمان، وبين العلم والكنيسة -كما يظن بعضهم- لما تجاوزت أوروبا عصور الظلام والتخلف إلى عصور النور والحداثة. ينظر فلاسفة أوروبيون كبار مثل: هيجل وكانط، إلى التنوير كونه مشروعا غير مكتمل، بل إن عالم الاجتماع الفرنسي جوستاف لوبون، ينفي -نفيا قاطعا- أي علاقة للتنوير والعقلانية بكل أحداث التغيير والإصلاح الديني في فرنسا. فما العامل الأكثر أهمية من عامِلَي العقل والتنوير؟ وما الثنائية التي شكلت عوامل التغيير؟. دائما ما ننظر إلى التاريخ الأوروبي من منظار صراع الثنائيات: صراع العقل والإيمان، صراع العلم والكنيسة، صراع الفلاسفة ورجال الدين، صراع قوى التنوير ضد قوى الظلام. ولكننا نغفل دائما العامل الأهم، وهو العامل الاقتصادي، صراع الطبقات الاقتصادية، صراع طبقة النبلاء مع الطبقة البرجوازية. الطبقة البرجوازية ونقصد بها أرباب الصناعة والتجارة، وأصحاب السفن، ومديري المصارف والبنوك. وفي سبيل تنشيط وتوسيع تجارتها، عمدت طبقة التجار -البرجوازية- إلى توسيع دائرة بحثها عن المواد الخام، بعد أن كانت مقتصرة ومنغلقة على دائرتها الضيقة في القارة الأوروبية، ولهذا نشطت حركة الكشوف البحرية والبحث عن العوالم الجديدة، لإيجاد مصادر غنية بالبهارات والتوابل والذهب والمواد الخام الضرورية للصناعة، وحركة الاكتشافات تلك لم تكن بهذه السهولة ما لم تكن مسبوقة بحروب دينية صليبية للسيطرة على البحار، خاضها الإسبان والبرتغاليون ضد التجار المسلمين، وكما يقال: من يسيطر على البحار يسيطر على اقتصاد العالم. نتج عن حركة التجارة الدولية والاكتشافات الجغرافية واسعة النطاق، وصولُ إمدادات كبيرة من الذهب والفضة من خارج أوروبا إلى داخلها، وقد أدت هذه الزيادة الضخمة في المعادن الثمينة إلى إعطاء دفعة قوية للاقتصاد، وكان ذلك يصب في مصلحة الطبقة البرجوازية الطموحة وما تحمله من قيم ومبادئ، على حساب طبقة النبلاء ورجال الكنيسة التي بدأت تترهل اقتصاديا، وحول هذه القضية يقول هاشم صالح «اضطر النبلاء عندئذ للمحافظة على مرتبتهم ومكانتهم، أن يصرفوا مبالغ ضخمة تزيد عن حجم المداخيل التي كانوا يجنونها من أراضيهم الإقطاعية. بدءا من ذلك الوقت راحت تتزايد أهمية الطبقة البرجوازية التاجرة على حساب طبقة النبلاء الإقطاعية المسيطرة تاريخيا، ثم أطاحت بها وبحكم الإقطاع فيما بعد، عن طريق إشعال الثورات الإنجليزية والأميركية والفرنسية». لا شك أن الحركة التجارية مع المستعمرات أدت إلى تدعيم الرخاء الأوروبي، ولكنها مع ذلك طرحت أسئلة شائكة حول مشروعية الاستعمار ونهب ثروات الشعوب، واستعباد العمال خارج أوروبا، لذلك استطاعت الطبقة البرجوازية المنتصرة أن ترفع شعارا أخلاقيا يتمثل في نشر التنوير وأفكار الفلاسفة العظام عند الشعوب البدائية تحت الاستعمار. وبما أن الشعوب الأوروبية ما تزال مفعمة بالحس الديني، فهم ما يزالون مسيحيين رغم كل التحولات الاقتصادية التي مرت بها القارة الأوروبية، كان من السهل تنشيط الباعث الديني لديهم، فكانت الإرساليات التبشيرية التي تسعى إلى إدخال «الكفار» خارج أوروبا إلى الدين المسيحي، تعطي بعدا دينيا -يضاف إلى البعد التنويري- للحركة الاستعمارية، وبالتالي تمنحها المشروعية الأخلاقية والدينية.

مشاركة :