لم يعد الصراع خافيا بين أنصار المؤسسة العسكرية ومؤيدي الحكم المدني في بعض الدول العربية. ووصل الأمر إلى حد التعامل مع تفوق طرف على أنه خسارة موجعة للطرف الثاني، ما تسبب في زيادة تعقيدات أزمتي الجزائر والسودان، ودخلت كل منهما نفقا قاتما بفعل تعامل جمهور الفريقين مع المسألة بحساسية مفرطة، واسترجع كلاهما في ذاكرته نماذج سلبية للتدليل على صواب رؤيته. أدت المواجهة المحتدمة والنظرة المشدودة والتمسك بأفكار أحادية إلى ارتفاع منسوب الاستقطاب، والسعي بكل السبل لتشكيل التحالفات بما يتجاوز الحدود التقليدية، حتى دخل التباين مرحلة حرجة من تكسير الإرادات. ويريد كل فريق تعزيز منهجه للقبض على السلطة وحشر الفريق المقابل في زاوية ضيقة، ليثبت أنه على صواب والآخر على خطأ، دون مراعاة لتداعيات التفاوض الذي يرفع شعار “عدو عدوي صديقي”. تتأكد ملامح هذا الاستنتاج من واقع ما وصلت إليه الأزمة في الجزائر أو السودان، وأصبح المتمسك بموقفه في دعم سلطة الجيش أو القوى المدنية مثل القابض على الجمر من كثرة عمليات الترهيب، وتوالي الخطابات الزاعقة والمفردات الصاخبة مثل التطرف والخيانة والعمالة والتآمر والهيمنة والدكتاتورية، وما إلى ذلك من عبارات يضمها القاموس العربي الشهير، وتحط من شأن طرف لحساب طرف آخر. زاد الغبار في هذه الأجواء المعبأة بالتلاسن، وأدى إلى ضبابية في المشهد السياسي، وصعوبة في تلمس الطريق الصحيح، وغموض في تحديد البوصلة التي ترسم معالم الطريق. وربما تكون الجزائر والسودان البلدين الظاهرين في هذه المعادلة، لكنها باتت محل نقاش في غالبية الدول العربية التي لا تزال تبحث عن آلية ناجحة للحكم تقلل المخاطر وتحفظ الأمن وتؤدي إلى الاستقرار والإصلاح. تسبب ضعف الأحزاب السياسية وهشاشة القوى المدنية في رفع مستوى الدور الذي تمارسه المؤسسة العسكرية والاعتماد عليها في الحكم وفي بناء دولة مدنية، ومُنح قادة بعض الجيوش العربية قوة مضاعفة للتمسك بعدم اليقين في قدرة أي جهة أخرى على تحقيق تطلعات المواطنين، لأن التشتت والتشرذم والخلاف في التقديرات لن تسمح بتفوق الخطاب المدني. تظهر هنا إشكالية عربية ممتدة منذ زمن وتتعلق بدرجة استعداد الشعوب لحكم الديمقراطية، وهل هي فعلا بحاجة لتهيئة ومقدمات وترتيبات معينة، أم هي حجة يراد منها عدم اللجوء إليها ووقف التشبث بتطبيقها؟ بالطبع لا توجد إجابة شافية تقول نعم أم لا، لأن طريقة الحكم تخضع لخصوصية كل بلد، ولا توجد وصفة أو مفكرة تحتوي على بنود راشدة يمكن تعميمها على جميع الدول، لكن لا أحد ينكر أهمية دور المؤسسة العسكرية، والقوى التي تناصر الحكم المدني. هناك قادة عسكريون تبنوا خطابا مدنيا منفتحا ومتقدما. وهناك شخصيات معجونة بمياه السياسة لم تتردد في تأييد أولوية الجيش في الحكم خلال فترات استثنائية وربما دائمة. كما أن السيطرة المباشرة والحاسمة لفصيل لم تعد سائدة، فلا يوجد الكثير من الجنرالات يتباهون بارتداء البزة العسكرية عقب الوصول إلى السلطة، وغالبيتهم يخلعون زيهم ويتمسكون بثوابتهم أيضا بمجرد القبض على زمام الحكم بوسيلة تبدو ديمقراطية. علاوة على أن تفاصيل الحل والعقد ليست قاطعة بأن الحكم العسكري سيء على طول الخط، والمدني جيد طول الوقت، فقد يكون الأول جيدا أحيانا، والثاني سيئا معظم الوقت. تتوقف نسبة التفوق والخسارة على ما يقدمه كل فريق من سد عملي لحاجات الناس على كافة المستويات، بمعنى أنه لا يجب أن يكون الأمن مستقرا والحريات منتهكة، ولا تكون حقوق الإنسان متوافرة وهناك تهديدات وتوترات ونزاعات منتشرة في أنحاء البلاد. ولذلك يمثل التمادي في المواجهة المفتعلة بين الفريقين خسارة فادحة للدولة. كشفت تطورات الجزائر والسودان عن تعمد بعض الدوائر في الداخل والخارج زيادة مساحة الارتباك بين المؤسسة العسكرية والقوى المدنية المنتعشة في الشارع، والتأكيد على صعوبة التلاقي بينهما حول جملة من القواسم المشتركة، والسعي نحو تغذية التناقضات كي تستمر الخلافات والتجاذبات وتتواصل عملية استنزاف القوى الرئيسية. وتدخل مرحلة الإنهاك بصورة تجعلها تقبل التسليم بمطالب دوائر منافسة، لأن وجود قوة وحيدة وازنة في السلطة، عسكرية أو مدنية، تمثل خطرا على أطراف تشعر بعدم الارتياح للمضي نحو الاستقرار. يملك كل طرف (عسكري ومدني) عددا من المؤيدين والرافضين، ويعمل هؤلاء على مساندة الفريق الذي يدعم وصوله منفردا للسلطة، لأنه يلبي تطلعاته ويحقق مصالحه. وأصبح التيار الإسلامي الرقم الصعب في التوازنات، ويقف في منتصف هذه المعادلة، ويحدد وجهة غالبية الأطراف، بالتأييد أو الرفض لهذا الفريق أو ذاك. يميل المؤيدون للإسلاميين في المنطقة إلى ترجيح كفة الحكم المدني، ويؤيد الرافضون منح الجيوش فرصة للإدارة والقبض على مفاصل الحكم، لأن المؤسسة العسكرية الجهة القادرة على تقويض نفوذ هؤلاء وتحجيم أدوارهم التي تنامت السنوات الماضية. وأي جرد حساب يستطيع فرز أنصار كل طرف والأدوات التي يتم استخدامها لإضفاء المنطق على مطالبه. تقود النتائج المترتبة على الاستقطاب الحاد إلى إرهاق الدولة، واستغراقها في معارك تؤثر سلبا على مستقبلها، ما يمنح دوائر متضررة مما وصلت إليه الأحداث في الوقت الراهن لجرها داخل منحنيات تحقق لها مكاسب أو تقلل ما تتعرض له من خسائر. في حالة السودان، يفضي التباعد في الرؤى إلى عدم الالتفات لكثير من المشكلات التي تعصف بهياكل الدولة، ويقدم فرصة على طبق من فضة لأنصار الثورة المضادة للسعي نحو توظيف عدم التفاهم بين المجلس العسكري وتحالف إعلان الحرية والتغيير، لأجل عودة مظفرة للقوى الرافضة في الداخل لعزل الرئيس عمر حسن البشير. ناهيك عن فتح نافذة لعودة أصحاب المصالح القابعين والمتربصين في الخارج ممن حققوا مزايا من وراء تصورات وتوجهات وممارسات حكم البشير. يؤدي تجذر المواجهة بين مؤيدي المؤسسة العسكرية ورافضي الدور الذي تلعبه بعض القوى بحجة تثبيت الحكم المدني، والعكس، في الجزائر والسودان، إلى خسارة الطرفين، ويمهد الطريق لظهور نماذج شعبوية تتجاوز الخلاف الظاهر بين أنصار كل فريق، مستندة إلى الحراك العشوائي المتصاعد الذي تشهده بعض التجارب، وتخطى أدوار الكثير من القوى والأحزاب المنظمة التي لم تستطع التكيف مع رغبات الشريحة الكبيرة من الجماهير. ومع أن دولا عدة أغلقت صفحات الشد والجذب، والمد والجزر، في الجزائر والسودان، غير أن الإصرار على استمرار الصدام بين قادة الجيوش والتيار الداعم للدولة المدنية الخالصة يتسبب في ظهور قوى من خارجهما تفرض سطوتها على الشارع، وتشرعن أجندتها الخاصة، وقد تجبر الفريقين على القبول بصيغة تقلص من نفوذ الطبقة الراغبة في الحكم على الطريقة العسكرية أو المدنية، وربما يظهر طريق ثالث يصطحب معه تصرفات تعيد ترتيب التوجهات العامة في المنطقة، التي باتت محصورة بين عسكريين وسياسيين، متجاهلة ما يدور من تطورات وسط الجماهير يمكن أن تجعل هؤلاء وهؤلاء خارج السلطة التقليدية.
مشاركة :