اعتباراً من اليوم، ينسدل الستار الرسمي على حياة ملك إسبانيا الفخري خوان كارلوس الأول الذي كان قد أبلغ ابنه الملك فيليبي السادس في كتاب رسمي منذ أيام بقراره الانسحاب نهائياً من الحياة العامة، وذلك بعد 5 سنوات من تنازله عن العرش، مارس خلالها مهام «الممثّل الخاص» للعرش الإسباني في عدد من المناسبات والمهام الوطنية والدولية. 44 عاماً من الحياة العامة الصاخبة، يعود خوان كارلوس في نهايتها إلى حياته الخاصة التي تبيّن في الحصيلة النهائية أن إدارتها كانت أصعب بكثير وأشدّ وطأة من إدارة الشأن العام في إحدى أصعب مراحل التاريخ الإسباني، وأكثرها ازدهاراً على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. لا شك في أن التاريخ سيسجّل لخوان كارلوس أن عهده كان فترة استثنائية توطّد خلالها النظام الديمقراطي، وانطلقت إسبانيا بسرعة مذهلة نحو الحداثة والاستقرار والانفتاح على العالم، بعد عقود من الصراعات الأهلية المدمّرة والحكم الديكتاتوري والعزلة الدولية. لكن ستبقى السنوات الأخيرة من هذا العهد، حيث كثرت الأخطاء والعثرات، هي الصورة التي ستغلب لفترة في أذهان الرأي العام قبل أن ينقشع الدخان وتستقرّ في الوعي العام الإنجازات التاريخية التي حققها هذا الملك الذي «ورث» نظاماً عسكريّاً حكم إسبانيا 4 عقود بيد من حديد، ليجعل منه إحدى الديمقراطيات الأكثر انفتاحاً في الغرب. ولعلّ صورة خوان كارلوس التي ستبقى محفورة أكثر من غيرها في كتب التاريخ هي إطلالته على شاشات التلفزيون في 24 فبراير (شباط) 1981 بلباس القائد الأعلى للقوات المسلّحة، معلناً رفضه محاولة الانقلاب العسكري وموجّهاً أوامره بالانسحاب إلى الضبّاط المتمرّدين الذين كانوا يستعدّون لدخول العاصمة، بعد أن كانت مجموعة منهم قد احتلت مجلس النوّاب المنعقد في إحدى جلساته العادية. وسيذكر التاريخ أيضاً لخوان كارلوس أنه استخلص العِبر من التجارب الفاشلة لبعض الطامحين إلى عروش أوروبية، خصوصاً تجربة صهره اليوناني قسطنطين الثاني، وأرسى نظاماً ملكيّاً برلمانيّاً جامعاً وموحداً ومعتدلاً، قامت عليه نهضة سياسية واجتماعية لم تشهدها إسبانيا في تاريخها. كما التزم طوال عهده أحكام الدستور، نصّاً وروحاً، ممارساً دور الحَكَم الأعلى بحياد تام بعيداً عن الصراعات السياسية وفوقها. في السنوات الأولى من عهد خوان كارلوس، شاعت نظرية مفادها أن الجنرال فرنكو هو الذي كان صاحب فكرة الانتقال إلى نظام ملكي دستوري بعد نهاية الديكتاتورية، لكن الحقيقة هي أن الملكيّة البرلمانية في إسبانيا تولّدت من قناعة خوان كارلوس وتنازله الطوعي عن السلطات المطلقة التي كان فرنكو قد وضعها في متناوله، وقيادته عملية انتقالية وتأسيسية فريدة من نوعها في التاريخ، لخّصها رئيس الوزراء الإسباني الأسبق أدولفو سواريز، الذي كان شريك العاهل الإسباني في قيادة تلك المرحلة، بقوله: «انتقلنا من القانون إلى القانون بواسطة القانون». كرّس خوان كارلوس قدراً كبيراً من جهوده ليكون السفير الأوّل لبلاده، بحيث اكتسبت الملكيّة الإسبانية شعبية واسعة ومشروعيّة بقيت راسخة حتى مطالع القرن الحالي عندما بدأت تتراجع بسبب تراكم الأخطاء والإفراط في الثقة وعدم التكيّف مع العصر، في الوقت الذي كانت فيه إسبانيا تقاسي من تداعيات أزمة اقتصادية واجتماعية طاحنة، ما دفعه إلى التنازل عن العرش في مثل هذا اليوم من 5 سنوات. منذ ذلك التاريخ، دخل النظام الملكي الإسباني مرحلة جديدة مع العاهل الشاب فيليبي السادس الذي حرص منذ بداية عهده على الاستفادة من التجارب الكثيرة الناجحة لوالده، وأيضاً من الأخطاء، مركّزاً على التكيّف مع ظروف العصر والتجاوب مع تطلعات الأجيال الجديدة ومطالبها. وبدا واضحاً في أسلوب العاهل الجديد، منذ اليوم الأول في عهده، أن الصرامة والحزم هما عنوان المرحلة الجديدة بعد أن كانت دماثة خوان كارلوس والدفء اللذان ميّزا طريقة تعامله هما الصورة الغالبة على المرحلة السابقة. تجربة النار الأولى لفيليبي السادس كانت محاولة الانقلاب الانفصالي الكاتالوني في خريف عام 2017، عندما ألقى خطابه الشهير الذي أدان فيه محاولة الانفصال بشدّة فاجأت الجميع، وأكّد شرعيّة استخدام كل الوسائل الدستورية لردعها. وقد لقي ذلك الخطاب ترحيباً واسعاً في الأوساط السياسية والاجتماعية على اختلاف مشاربها، لكنه أثار امتعاضاً كبيراً واحتجاجات في الأوساط الانفصالية الكاتالونية التي قرّرت «مقاطعة» الملك في كل المناسبات والاحتفالات الرسمية. مرحلة جديدة يقودها الملك الشاب حاملاً إرث والده الذي بات جزءاً من تاريخ إسبانيا الحديث، لا بل من أجمل حقب التاريخ الإسباني. حقبة حرص خوان كارلوس خلالها على العلاقات مع العالمين العربي والإسلامي، حيث كان أول رئيس دولة في أوروبا الغربية يستقبل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في زيارة رسمية، كما كانت لعلاقات الصداقة الوطيدة والأخوّة التي تربطه بالعائلة المالكة السعودية منزلة خاصة عنده.
مشاركة :