يرى الباحث والمفكر اللبناني د. جورج قرم أن على العرب اليوم، إعادة بناء منظومة ثقافية جديدة، كأساس لنهضة عربية ثانية، مستقلة عما يأتينا من الغرب من دفق إعلامي وأكاديمي متواصل، والخروج من الإشكاليات التي نتخبَّط فيها منذ النهضة العربية الأولى، مثل الإشكالية العقيمة بين الحداثة والتراث، أو الإشكالية بين القومية والدين، وهما إشكاليتان لا تزالان تحتلان الحيز الفكري، والإعلامي كلَّه، دون إيجاد حلٍّ لهما، وكأن هاتين المسألتين من الممنوعات، وتؤديان إلى فقدان الشخصية الحضارية. ويقول قرم في كتابه «المسألة الدينية في القرن الحادي والعشرين» (ترجمة خليل أحمد خليل)، انطلاقاً من قاعدة نفيه لمقولة «صِدام الحضارات»، ورفضه «عزل الدّين» عن العوامل التاريخية والسياسية الفاعلة فيه، والتي يُوظَّف من خلالها لأغراض أخرى، يقول: علينا أن ندخل في مراجعة نقدية صارمة لممارساتنا الثقافية، والإعلامية، التي صارت تشبه إلى حد بعيد ما يصدره إلينا الغرب من أدبيات مفخخة حول «عودة الديني»، وحرب الحضارات، والقيم اليهودية/ المسيحية مقابل قيم عربية/ إسلامية. ويؤمن قرم (1940) الذي نال جائزة الأكاديمية الفرنسية للبحث 2018 عن كتابه «المسألة الشرقية الجديدة»: أن مسؤولية المثقف العربي الأولى، هي العودة إلى هذه «النهضة» للبناء عليها، والعودة كذلك إلى أوجُه عديدة من التراث العربي والإسلامي في الفلسفة، وعلم التاريخ، والسوسيولوجيا التي أسَّسها، في عبقرية خارقة، ابن خلدون، خاصة أن الثقافة العربية قبل ظهور الإسلام وبعده، هي ثقافة شعر، وموسيقى في المقام الأول، واليوم في ظل الفوضى العارمة التي يشهدها العالم العربي، كل ذلك أصبح مجهولاً، بل مطموس ومقبور، لصالح ثقافات سطحية، وأفكار جامدة تأسرنا، في سجن فكري وثقافي وحضاري كبير يجب أن نعمل على تفكيكه، وهذه هي مسؤولية المثقف الأولى، وليس العمل السياسي اليومي، والكتابة السريعة الإعلامية الطابع، حول أحداث ظرفية ومتلاشية ومتكرِّرة في الساحة الإعلامية الدولية والإقليمية والعربية. ويعتقد قرم في مؤلفه، الذي يأتي كمتابعة للتأملات الفكرية والتاريخية لمؤلفه السابق «شرق وغرب/ الشرخ الأسطوري» (2003) أنه لسوء الحظ، أن المثقف العربي اليوم، واقع في التباس تام بين المهنة الإعلامية، أي كتابة مقالات الرأي في الصحف، أو الظهور على الشاشات التلفزيونية، لإبداء الرأي في الأحداث اليومية الظرفية، وبين وظيفة المثقف الذي عليه أن يبني ثقافة متينة رصينة تفرض نفسها بالتدريج على أنظمة الحياة الاجتماعية والسياسية، والأجهزة الإعلامية. ويؤكد قرم أن «الشرخ» القائم بين الشرق والغرب، هو شرخ أسطوري الطابع، يغذِّيه السادةُ السياسيون ومثقفو السلطة. ولتحقيق تحالف إنسانوي عالمي، يرى صاحب مؤلف «انفجار المشرق العربي» أنه يجب علينا إعادة إحياء تراث فلسفة الأنوار الأوروبية من جهة، والنهضة العربية من جهة ثانية، إذ تشكل اللغة النهضوية العربية، ولغة الأنوار، مع مبادئ الثورتين الفرنسية والأميركية السبيل الممكن للتحاور مع الفكر الغربي، بدلاً من اللغة السطحية المتعلقة بصدام أو حوار الحضارات. وحول كتابه الأخير «المسألة الشرقية الجديدة» (لاديكوفيرت)، والذي يطرح من خلاله مسألتي «الفوضى الفكرية» التي تشوش نظرة مجتمعاتنا للواقع، و«مسألة الإصلاح المعرفي» يرى د. جورج قرم، الخبير الاقتصادي ووزير المالية اللبناني السابق، أننا اليوم نواجه فوضى فكرية عارمة، أحاول في ظلّها تصويب الأمور في الميدان المعرفي في مسعى ليس بسهل، نظراً إلى أنّ عدداً كبيراً من الأكاديميين، أكانوا عرباً أم أوروبيين أم أميركيين أم مختصين في الشرق الأوسط، فضلاً عن الثقافة الإعلامية المهيمنة، يستخدمون مفاهيم خاطئة تحجب الواقع المتمثل في استعادة الامبريالية زخمها في مطلع القرن العشرين.
مشاركة :