"دُفعة القاهرة" نوستالجيا بصرية تحلق بعيدا

  • 6/4/2019
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

عرف المسلسل الكويتي الرمضاني “دفعة القاهرة” العديد من الانتقادات منذ بث حلقاته الأولى، حيث قيل أنه قد تم اقتباس أحداثه من رواية الكاتب السعودي الراحل غازي القصبي “شقة الحرية” وهو ما نفاه صناع العمل، كما استبعده كثيرون لما بين الرواية والعمل من اختلاف كبير. وعاب البعض الآخر أعلى المسلسل أيضا اعتماده على قصص الحب بين الطلبة المرسلون للدراسة، معتبرين أنه أمر مناف للمنطق والحقائق أيضا، حتى أن بعض وسائل الإعلام سلطت الضوء على تصريحات بعض المبتعثين الكويتيين في فترة الخمسينات والذين تبرأوا بدورهم من المسلسل معتبرين أنه يسيء إليهم. تنويه للتوضيح لكن دعونا ننظر إلى الأمر بعيدا عن هذه المزايدات الإعلامية والأخبار المستقاة من وسائل التواصل الاجتماعي، فالمسلسل يقدم حالة مشهدية غير مسبوقة في الدراما الخليجية. العمل يعتمد في المقام الأول على الصورة وتنطلق حبكتها من وحي الخيال، وهو ليس عملا توثيقيا أو تأريخيا لأحداث بعينها ما يدفعنا إلى مقارنة ما جاء في المسلسل بالوقائع الحقيقية، وإذا ما نظرنا إلى العمل على هذا النحو يمكننا أن نقف على جمالياته البصرية بلا شك. ومسلسل “دفعة القاهرة” من إخراج علي العلي وتأليف الكاتبة هبة مشاري حمادة، وتشارك فيه نخبة متنوعة من الفنانين الشباب بينهم بشار الشطي، وفاطمة الصفي، ونور الغندور، وحمد إشكناني، وخالد الشاعر، ونور الشيخ، ولولوة الملا، ومهند حمدي ومرام البلوشي، كما يشارك فيه فنانون من مصر بينهم رانيا منصور ونرمين ماهر، ومن ضيوف الشرف تطل علينا كل من انتصار الشراح وفاطمة الحسني. ويبدو أن صناع العمل كانوا مدركين لما هم مقدمون عليه من هجوم، فاستبقوا كل ذلك بتنويه مقتضب في بداية كل حلقة يشير إلى أن المسلسل لا يصح التعامل معه كعمل تاريخي أو توثيقي.ويقول التنويه “هذا العمل الدرامي بريء من الواقع منذ أول دقيقة في حلقته الأولى إلى آخر دقيقة في حلقته الأخيرة”، ولم يشر إلى الدولة التي انطلقت منها دفعات الطالبات والطلبة، ولا تشير جنسياتهم إلى دولة بعينها، وكل أحداث العمل وحواراته وتفاصيله متخيلة بالكامل. ويضيف التنويه “نرجو ألّا تتحمل الشخصيات في العمل ما يفوق حضورها الدرامي المتخيل فحسب، هذا العمل ليس عملا توثيقيا، ولا يمكن اعتماده كمرجع ولا يعبر عن أي سيرة ذاتية، ولقد اتخذنا من المحروسة مصر أم الدنيا حاضنة جغرافية للعمل، لأنها كانت وما زالت منارة للجمال والفن والحب والعلم، ولأننا رغبنا بشدة في أن نصدر نموذجا بصريا غنيا ومختلفا قوميا وعربيا”. الجزئية التي يتضمنها البيان والتي تنفي انتماء الأحداث إلى دولة أو جنسية بعينها تبدو مجافية للتفاصيل والأحداث الدرامية في المسلسل، هذه التفاصيل التي تشير في مواضع عدة إلى دولة الكويت، نستطيع أن نلمح ذلك في عادات الطلبة ولهجاتهم، وذكرياتهم المشتركة، وغيرها من التفاصيل الأخرى، ولم يكن هناك داع إلى تلك الإشارة في وجود ما ينفيها داخل العمل. الجوانب الأخرى التي جرى التنويه بها في ذلك البيان لا غبار عليها في الحقيقة، فهي من الأمور المشروعة في عمل درامي كهذا يعتمد على الصورة، ويقدم حبكة بصرية مميزة ومختلفة عما نشاهده في الدراما الخليجية. وفي هذا المسلسل نرى للمرة الأولى عملا دراميا خليجيا يحلق بعيدا عن أجواء الخليج ليغوص عميقا في تفاصيل مجتمع آخر، أو ربما ثقافة مختلفة أيضا، ليس هذا فقط، بل يعود بنا العمل عشرات السنوات إلى الوراء، ليأخذنا معه إلى قاهرة الخمسينات بكل ما كانت تمثله تلك المدينة وقتها من رمزية مرتبطة بالمد القومي في عهد عبدالناصر، أو بالفن الذي اجتمع حوله أبناء الوطن العربي من المحيط إلى الخليج، إنها قاهرة أم كلثوم وعبدالحليم، هذه المدينة العامرة بدور السينما والمسارح والكازينوهات والشوارع التي لا تنام. القاهرة والناسنحن هنا أمام حالة من الحنين لهذا الزمن الذي يعنّ للبعض وصفه بـ”الزمن الجميل”، ولعل جمالياته تلك مرتبطة إلى حد كبير بكل هذا الحشد من التفاصيل التاريخية والذكريات الملهمة والنماذج والرموز الفنية والأدبية والسياسية. فهل استطاع المسلسل أن ينقلنا إلى قاهرة الخمسينات بالفعل؟ إذا ما تغاضينا عن التفاصيل والهنات الصغيرة التي تضمنها العمل، كتوقيت ظهور البث التلفزيوني مثلا، والذي صوّره المسلسل كأحد مظاهر المدنية القاهرية، رغم تأخر ظهوره عن تلك الحقبة، حيث انطلق البث التلفزيوني المصري تحديدا في بداية الستينات، نقول إننا إذا ما تغاضينا عن مثل هذه التفاصيل -وهي قليلة بالمناسبة- نجد أن المسلسل يقدّم لنا صورة جمالية ودرامية مبهرة للمدينة، ربما تكون هي نفسها الصورة المرتسمة في أذهان الكثيرين ممن عايشوا تلك المرحلة أو لم يعايشوها، لكنها تشكلت في وعيهم بتأثير السينما، ربما لذلك اعتمد المسلسل على تلك الصورة الذهنية كمرجعية بصرية وثقافية. ويبدأ مسلسل “دُفعة القاهرة” بترشيح دائرة المعارف في دولة خليجية لبعض الفتيات والشباب من أجل إكمال تعليمهم في القاهرة، يأتي الطلبة الذين ينتمون إلى مستويات اقتصادية وثقافية مختلفة إلى المدينة الكبيرة التي كانوا يرسمون لها صورة بديعة في خيالهم، صورة لها علاقة بنجمات السينما وصوت أم كلثوم وعبدالحليم، فيصطدم بعضهم بالواقع، بينما يظل آخرون مستسلمين لخيالاتهم. صوت عبدالحليم وأم كلثوم جزء أساسي من المشهد، فهما حاضران بصوتيهما وهيئتيهما أيضا، ففي الحلقة الأولى يقتحم أحد أفراد البعثة (مهند حمدي) بيت أم كلثوم حاملا آلة العود من أجل أن يسمعها عزفه، فيمسك به حراس البيت، وتأتي أم كلثوم لتنقذه من بين أيديهم، وتستمع إلى عزفه على الآلة، ثم تسارع بإخباره بكل صراحة أنه لا يمتلك الموهبة، وتنصحه بأن يهتم بدروسه أفضل، وهو ما ينعكس على تفاصيل حياته اللاحقة. صوت عبدالحليم وأم كلثوم جزء من مشهد المسلسل، فهما حاضران بصوتيهما وهيئتيهما كمثال عن قاهرة الخمسينات العلاقات بين أفراد البعثة من الفتيات والشباب تكتنفها قصص حب وغيرة وعلاقات معقدة مع المدينة، التي تحمل مخاضا لعصر جديد، يتفاعل الطلبة هنا مع الأحداث الكبرى كتأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي على مصر، وبين هذا وذاك تستمر جماليات الصورة في الاحتفاظ بأكبر قدر من التناسق البصري والإخراجي، ويجدر التنويه هنا بالملابس التي تم انتقاؤها جيدا لتتناسب مع تلك الفترة، وغيرها من التفاصيل الأخرى كمشاهد التظاهرات الجامعية مثلا. والبطولة هنا جماعية في المقام الأول، كما أن الحوار والكلمات نجحا في استعارة قاموس تلك الفترة أو اقتربا منه إلى حد مقبول، ومن بين الشخصيات اللافتة في المسلسل شخصية الشاب الأعمى التي يؤديها ببراعة الفنان حمد إشكناني، وكذلك الفنانة الشابة لولوة الملا في دور نزهة، كما أجادت الفنانة الجميلة نور الغندور القيام بشخصيتين متناقضتين، هما الشقيقتين التوأم سبيكة وإقبال.

مشاركة :