يستقبل المصريون ليلة رؤية هلال عيد الفطر المبارك، باحتفالات خاصة تتفرد بها مصر عبر تاريخها الإسلامي، لكن احتفالات القاهرة بحلول ليلة الرؤية والعيد في العصر الفاطمي اتسمت بطقوس وعادات وتقاليد أكثر تفردا لم يبق منها اليوم إلا فرحة الأطفال وكعك العيد الذي تنافسه حلويات العصر. كان موكب العيد في العصر الفاطمي حافلا بأنواع من المرح ليشاهدها الخليفة عند ذهابه وإيابه من المصلى، وتتولى القيام بها طائفة من أرباب الرواتب تعرف بالبرقية أو صبيان الخف فيركب جماعة منهم على خيول ويركضون وهم يتقلبون عليها، ثم يخرج الواحد منهم من تحت إبط الفرس وهو يركض ويعود ويركب من الجانب الآخر ويعود وهو على حاله، لا يتوقف ولا يسقط منه شيء على الأرض، ومنهم من يقف على ظهر الحصان فيركض وهو واقف. وإذا عاد الخليفة من صلاة العيد مارا بباب النصر وجد بعض هؤلاء البرقية قد مدوا حبلين مسطوحين من أعلى باب النصر إلى الأرض، حبل عن يمين الباب وآخر عن شماله، وتنزل على الحبلين طائفة من هؤلاء على أشكال خيل من خشب مدهون وفي أيديهم الرايات وخلف كل واحد منهم رديف وتحت رجليه آخر معلق بيديه ورجليه. وبعض هذه المظاهر الاحتفالية مازالت موجودة في مختلف المدن والقرى المصرية، ففي أيام العيد تنشأ “حارة العيد” في أي مساحة من الأرض، ويصل إليها الحواة ولاعبو الأكروبات والأراجوز، وقد يكون هناك سيرك بمساحة صغيرة أو مسرح شعبي، فضلا عن باعة لعب الأطفال ومن يقومون بتأجير الدواب لركوب الأطفال أو دراجات الركوب. وتسمية هذا “المحفل” اللاهي باسم حارة العيد ووجود الحواة به وأصحاب الدواب من بقايا مظاهر الاحتفال الفاطمي القديم بعيد الفطر، ولكن دون حاجة إلى خليفة أو رئيس يتابع هذه المظاهر، فقد ذهب ولي الأمر وبقي العامة والأطفال وحدهم في حارة العيد. واهتم خلفاء الفاطميين اهتماما خاصا باستقبال الأعياد، من خلال تقديم الأطعمة في موائد كبيرة يتم دعوة الناس إليها من كافة الطبقات، وكان يطلق علي تلك الموائد اسم “الأسمطة”، فكانت تمد الموائد وتعد ألوان الطعام بكثرة “فيأكل الناس هنيئا ويشربون مريئا”، وبعد الانتهاء من الأكل يوزع باقي السماط على أهل القاهرة ويأخذ الرجل الواحد ما يكفيه وربما ما يكفي لسحوره وعائلته. السماط يشبه ما نسميه اليوم بموائد الرحمن، لكن هذه الأخيرة تختلف في أنها تقام من طرف جمعيات وفاعلي الخير وتمتد طيلة شهر رمضان، في حين أن الأسماط يقيمها الحاكم في آخر يوم من شهر الصيام، وهو ما غاب اليوم عن رجال السياسة والماسكين بزمام الحكم.يقول الباحث المصري في شؤون التراث، شحاتة عيسى إبراهيم، في كتابه “القاهرة”، “كان السماط يقام في يوم عيد الفطر مرتين بطول 300 ذراع وعرض سبعة أذرع، فكان يبدأ إعداد السماط الأول قبيل صلاة العيد بحضور وزير الخليفة، ويمد للضيوف من خاصة وعامة الشعب عقب انتهاء صلاة العيد”. وأشار الباحث إلى مد سماط آخر من فضة يطلق عليه اسم “المدورة” وعليه أوان من الفضة والذهب، ويوضع في وسط السماط (المائدة) 21 طبقا كبيرا عليها 21 خروفا، و350 دجاجة، و350 حمامة، بجانب أنواع كثيرة من الحلوى. وبعد صلاة الفجر يدعو الخليفة الناس إلى سماط الحلوى هذا ويتجمع المدعوون ويأخذ كل واحد له ولأهله نصيبهم ثم يدخل موظفو القصر ليأخذوا نصيبهم. ومع طلوع الشمس يركب الخليفة ويخرج في موكب فخم من “باب العيد”، أحد أبواب القصر الكبير إلى المصلى.. ويركب مع الخليفة الوزير.. ويسير الموكب الهائل الفخم إلى “مصلى العيد” أو “رحبة العيد” وهي مساحة قد وضعها جوهر الصقي في تصميمه للقاهرة. ولفت عيسى إبراهيم إلى أنه يقدم في السماط أطباق حلوى تشبه ما يطلق عليه اليوم اسم “التورتة” وزن كل طبق من الحلوى 17 قنطارا، حيث يتم دعوة العامة والخاصة لتناول الطعام والحلوى بحضور الخليفة في مائدة تمتد من بعد صلاة عيد الفطر وحتى الظهر. وإلى الفاطميين يرجع الفضل الأكبر في اهتمام أهل مصر وبلاد الشام بعمل كعك العيد، ومازال المسلمون في الكثير من الأقطار يحافظون على طقوس ومظاهر احتفالية التصقت دوما بعيد الفطر، أهمها كعك العيد. ويبدو ذلك واضحا في الأراضي التي خضعت لحكم الفاطميين الذي امتد ليشمل شمال أفريقيا من تونس إلى مصر بالإضافة إلى بلاد الشام والحجاز ونجد واليمن. وكان الخلفاء الفاطميون يخرجون للاحتفال بقدوم العيد في مواكب “غاية في الأبهة والفخامة”، يحيط بهم العسكر وتحيط بهم فرق الموسيقى والخيالة. وكما تقول الباحثة سعاد ماهر محمد، في كتابها الموسوعي “مساجد مصر وأولياؤها الصالحون”، إن الاحتفال بعيد الفطر كان يبدأ في ختام شهر رمضان، حيث كان الخلفاء يختتمون الليلة الأخيرة من رمضان باستدعاء المقرئين للاحتفال بليلة العيد، فيبدأون في قراءة آيات الذكر الحكيم، بأحسن الأصوات ثم يجيء بعد ذلك الخطباء.وأشارت إلى أن المؤذنين يكبّرون ويهللون ثم ينشدون أدعية صوفية إلى أن ينثر عليهم الخليفة من الشرفة الدنانير والدراهم ، وتوزع عليهم أطباق القطائف مع الحلوى و”خلع العيد”. ولفتت إلى أن الدراهم توزع على المقرئين والمؤذنين، فإذا ما انتهى مجلس المقرئين والخطباء، انتقل الخليفة إلى قاعة الذهب، فيجلس في الديوان وعلى يمينه الوزير، ثم يجلس بعده الأمراء بعد أداء التحية كل في المكان المخصص له، ويتبعهم الرسل الوافدون من جميع الأقاليم لتقديم التهنئة والهدايا، ثم يعاود المقرئون قراءة آيات من القران الكريم. وإذا أصبح يوم العيد خرج الخليفة وحاشيته وجنده وعساكره لتأدية صلاة العيد في مصلى أقيم خصيصا لهذا الغرض، ويصف المؤرخ المقريزي (شيخ المؤرخين المصريين المعروف باسم تقي الدين المقريزي) هذا المصلى فيقول، “وكان في شرقي القصر الكبير مصلى العيد من خارج باب النصر، أحد أبواب القاهرة”. وكانت تسبق صلاة العيد استعدادات كبيرة يقوم بها كبار رجال الدولة لتهيئة المصلى وإظهاره بالمظهر اللائق بالعيد وبالخليفة، يقول المقريزي، “فإذا أكمل رمضان وهو عندهم 30 يوما، فإذا كان اليوم الأول من شوال صار صاحب بيت المال (وزير الخزانة) إلى المصلى خارج باب النصر وفرش السجاد بمحراب المصلى، ويعلق سترين يمنة ويسرة، مرقوم في الأيمن سورة الفاتحة وسورة ‘سبح اسم ربك الأعلى’ ومنقوش في الأيسر الفاتحة وسورة ‘هل أتاك حديث الغاشية"”. ووفقا للمقريزي، “يركز في جانبي المصلى لواءين مشدودين على رمحين ملبسين بأنابيب الفضة ويوضع على ذروة المنبر طراحة من حرير دبيقي كما يفرش درج المنبر بالحرير”. وفي يوم العيد يسير الخلفية من منزله ومعه كبار رجال الدولة، في ملابسهم الجديدة إلى باب القصر، ويركب بهيئة المواكب العظيمة مثل موكب رؤية هلال رمضان. وتكون ملابس الخليفة في عيد الفطر بيضاء موشحة بالفضة والذهب ومظلته كذلك، إلا أن عساكره في هذا اليوم من الأمراء والأجناد والركبان والمشاة يكونون أكثر وينتظم الجند له في صفين من باب القصر (الذي كان يقع في منطقة الصاغة الحالية بالعاصمة القاهرة). ويدخل الخليفة إلى المصلى ويستريح فيه فترة ثم يخرج محفوفا بحاشيته قاصدا المحراب ومن خلفه الوزير والقاضي ليؤدوا صلاة العيد.
مشاركة :