قال مصطفى لطفى المنفلوطى فى كتابه «نظرات وعبرات» إن ليلة العيد لا تأتى حتى يطلع فى سمائها نجمان مختلفان، نجم سعود ونجم نحوس، فأما الأول فللسعداء الذين أعدوا لأنفسهم صنوف الأردية والحُلل ولأولادهم اللعب والتماثيل ولأضيافهم ألوان المطاعم والمشارب، ثم ناموا ليلتهم نوما هادئا مطمئنا تتطاير فيه الأحلام الجميلة حول أسرتهم تطاير الحمام البيضاء حول المروج الخضراء، وأما الثانى فللأشقياء الذين يبيتون ليلتهم على مثل جمر الغضا يئنون فى فراشهم أنينا يتصدع له القلب ويذوب له الصخر حزنا على أولادهم الواقفين بين أيديهم يسألونهم بألسنتهم وأعينهم «ماذا أعد لهم فى هذا اليوم من ثياب يفاخرون بها أندادهم، ولعب جميلة يزينون بها مناضدهم فيعللونهم بوعود يعلمون أنهم لا يستطيعون الوفاء بها».ويضيف المنفلوطى متسائلا: هل لأولئك أن يمدوا إلى هؤلاء الأشقياء يد البر والمعروف ويفيضوا عليهم فى ذلك اليوم النذر القليل مما أعطاهم الله ليسجلوا لهم فى باب المروءة والإحسان ما سجل لصاحب حانوت التماثيل.يبين المنفلوطي: أن رجلا لا يؤمن بالله ورسله وآياته وكتبه ويحمل بين جنبيه قلبا يخفق بالرحمة والحنان، ولا يستطيع أن يملك نفسه من البكاء ولا قلبه من الخفقان عندما يرى فى العيد وفى طريقه معبده أو منصرفه من زيارته طفلة بالية مسكينة بالية الثياب دامعة العين تحاول أن تتوارى وراء الأسوار والجدران خجلا من أثوابها وصواحبها خجلا أن تقع أنظارهن على بؤسها وفقرها ورثاثة ثوبها وفراغ يدها من مثل ما تمتلئ به أيديهن، فلا يجد بدا من أن يدفع عن نفسه ذلك الألم بالحنو عليها وعلى بؤسها ومتربتها، وذلك لأنه يعلم أن جميع ما اجتمع له من صنوف السعادة وألوانها لا يوازى ذرة واحدة من السعادة التى لا يشعر بها فى أعماق قلبه عندما يمسح بيده تلك الدمعة المترقرقة فى عينيها.واختتم المنفلوطى قوله: إن البؤساء حسبوا من محن الدهر وأرزائه أنهم يقضون جميع أيام حياتهم فى سجن مظلم من بؤسهم وشقائهم، فلا أقل من أن يتمتعوا برؤية أشعة السعادة فى كل عام مرة أو مرتين.وذكر المنفلوطى موقفا فى باب المرؤة والإسان فى العيد، فى كتابه «نظرات وعبرات» قائلا: أفضل ما سمعت فى باب المروءة والإحسان أن امرأة بائسة وقفت ليلة عيد من الأعياد بحانوت تماثيل بباريس يطوقه الناس فى تلك الليلة لابتياع اللعب لأطفالها الصغار، فوقع نظرها على تمثال صغير من المرمر وهو آية الآيات فى حسنه وجماله، فابتهجت بمرآه ابتهاجا عظيما، ليس لأنها غريرة بلهاء يستفزها من تلك المناظر الصبيانية ما يستفز الأطفال الصغار، ولكن لأنها كانت تنظر إليه بعين ولدها الصغير الذى تركته فى منزله ينتظر عودتها إليه بلعبة العيد.ويضيف المنفلوطي: هذه المرآة أخذت تساوم صاحب الحانوت فى هذا التمثال ساعة كاملة والرجل يغالى به مغالاة شديدة حتى علمت أن يدها لا تستطيع الوصول إلى ثمنه، وأنها لا تسطيع العودة بدونه.وتابع المنفلوطي: هذه المرأة ساقتها الضرورة التى لا يقدرها سوى من حمل بين جنبيه قلبا كقلب الأم وفؤادا مستطارا كفؤادها، فمدت يدها خُفية إلى التمثال لتسرقه من حيث تظن أن الرجل لا يراها ولا يشعر بمكانها، ثم رجعت أدراجها وقلبها يخفق فى آن واحد خفقتين مختلفتين، خفقة الخوف من عاقبة فعلها، وخفقة السرور بالهدية الجميلة التى ستقدمها بعد لحظات إلى ولدها.ويستكمل المنفلوطي: أن صاحب الحانوت من اليقظة بحيث لا تفوته معرفة ما يدور حول حانوته، فما برحت مكانها حتى تبعها يترسم مواقع أقدامها حتى عرف منزلها ثم تركها وشأنها وذهب إلى مخفر الشرطة فجاء منه بجنديين للقبض عليها، وصعدوا جميعا إلى الغرفة التى تسكنها ففاجأوها وهى جالسة بين يدى ولدها تنظر إلى فرحه وابتهاجه بتمثاله نظرات الغبطة والسرور فهجم الجنديان على الأم فاعتقلاها وهجم الرجل على الولد فانتزع منه التمثال فصرخ الولد صرخة عظمى لا على التمثال الذى اُنتزع منه بل على أمه المرتعدة بين يديه وكانت كلمة نطق بها وهو جاثٍ بين يدى الرجل « رحماك بأمى يا مولاي» وظل يبكى بكاء شديدا.جمد الرجل أمام هذا المنظر المؤثر، وأطرق إطراقا طويلا وإنه لكذلك إذ أشرق فجر يوم العيد الجديد وصعب عليه أن يترك هذه الأسرة الصغيرة المسكينة حزينة ومنكوبة فى هذا اليوم الذى يفرح فيه الناس جميعا، فالتفت إلى الجنديين وقال لهما إنى أخطأت فى اتهام هذه المرأة فإنى لا أبيع هذا النوع من التماثيل فانصرفا لشأنهما، والتفت هو إلى الولد فاستغفره ذنبه إليه وإلى أمه ثم مشى إلى الأم فاعتذر لها عن خشونته وشدته فشكرت له فضله ومروءته وجبينها يرفض عرقا حياء من فعلتها، ولم يفارقها حتى أسدى إليهما من النعم ما جعل عيدهما أسعد وأهنأ مما كانا يظنان.
مشاركة :