كتاب (نهج البلاغة) من إصدارات القرن الرابع الهجري، هو كتاب من وضع الشريف الرضي، الذي ضمنه ما كان ينسب إلى الخليفة الراشدي علي بن أبي طالب كرم الله وجهه من الخطب والرسائل والحكم والوصايا والمواعظ. إلا أنها في كثير منها مشكوك في صحة نسبتها إلى علي بن أبي طالب، وقد صرح بعض العلماء بشكهم في صحة ما احتوى عليه الكتاب من نصوص وقالوا إن الكتاب يحتوي على أكاذيب وتحريفات وأقوال موضوعة على لسان علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومن هؤلاء العلماء ابن تيمية الذي يقول عن الكتاب إن أكثر الخطب التي جاءت فيه منسوبة إلى علي بن أبي طالب، هي مكذوبة عليه. في هذا الكتاب قرأت عبارة منسوبة إلى علي بن أبي طالب يقول فيها: «إن قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار». لا أنكر أني حين قرأت هذه العبارة للوهلة الأولى شعرت بالإعجاب بها، فأصدق ما يكون الإيمان أن يكون نابعا من القلب بتجرد، بلا دافع من خوف العقاب أو تطلع إلى نيل مكافأة ما!! لكني ما لبثت أن أخذت أتأمل في تلك العبارة، فتكشف لي أنها مخالفة لما أراده الله سبحانه وتعالى من عباده، فهو جل وعلا، يأمرنا بأن ندعوه خوفا من عقابه ورغبة في نيل الأجر من عنده {وأدعوه خوفا وطمعا}، ووصف عباده المؤمنين بأنهم {تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا}، وأنهم يعبدونه لأنهم يتاجرون معه {يرجون تجارة لن تبور} هو سبحانه من أمرهم بذلك. هناك غير هذه من الآيات التي توضح لنا أن الله سبحانه أراد منا أن ندعوه خوفا من عقابه وطمعا في نيل ما عنده من الأجر والمثوبة، لذلك استبعد أن يغيب عن علي بن أبي طالب هذا الأمر فيقول مثل تلك العبارة! هذا الكتاب وضع في القرن الرابع الهجري، أي بعد أن ازدهرت ترجمة العلوم عند المسلمين، التي بلغت أوجها أيام المأمون في القرن الثالث للهجرة، ومن المتوقع أن واضع تلك العبارة هو من المفكرين الذين تأثروا بما نقل إلى الثقافة الإسلامية من فكر اليونان وثقافتهم، فهي يبدو فيها فكر فلسفي قريب مما كان يقول به فلاسفة اليونان أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو من تسامي الروح على الجوانب الحسية، كما تبدو فيها الروح الطبقية التي كانت سائدة لدى اليونان، والتي تجعل الكرامة والتسامي الروحي من خصائص الأحرار لا العبيد. أما في الإسلام فالناس كلهم عبيد لله، وما داموا عبيدا له فليس لهم أن يأنفوا من أن يكونوا في حاجة إلى عطائه ونعمه، وليس لهم أن يتعالوا على أن يكونوا عبيدا له يخشون أن يحل عليهم غضبه ونقمته.
مشاركة :