حكمة مشروعية صيامها: إن شهر رمضان لم يشرع ليكون طفرة في حياة المسلم، ولا حالة لا تُتابع، وإنما شرع للتدريب على لزوم الطاعة، وتسهيل انقياد النفس لمراد الشارع، وقد كان من أعظم ما شُرع لإبراز هذا المعنى ما سنه النبي صلى الله عليه وآله وسلم لنا بعد رمضان من صيام الأيام الست من شوال. فصيامها تدليل بلسان الحال على أننا على العهد باقون، وعلى الطاعة مقبلون، فصيامنا للفرض لم يكن عن قهر ولا إكراه، ولا استثقال، بل كان محبة لله، ورغبة في مرضاته، إيمانًا واحتسابًا، فلذلك نتبع صوم الفرض بالتطوع، رغبة في البقاء على طريق العبادة لله تعالى، وإعلانًا عمليًا بذلك. دليل مشروعية صيام الست من شوال: ورد في صيام الست من شوال أحاديث صحيحة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم منها: (1) (من صام رمضان ثم أتبعه ستًا من شوال كان كصيام الدهر) (رواه مسلم بسنده إلى أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه). (2) (من صام ستة أيام بعد الفطر، كان تمام السنة {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } (الأنعام: 160)) (رواه أحمد وابن ماجة بإسنادهما إلى ثوبان رضي الله عنه). أقوال العلماء في صيام الست من شوال:أكثر العلماء على أن صيامها سنة مستحبة، للأحاديث الصحيحة الواردة بشأنها، وقد روي عن الإمام مالك بن أنس رحمه الله أنه كان يكره صيامها، كما روي مثل ذلك أيضًا عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وسبب ذلك أنهما إنما خافا أن يتوهم الناس جوبها، وأن يلحقوها برمضان في فرضيتها، فيقعون بذلك فيما وقع فيه أهل الكتاب من الزيادة في أيام صومهم، وقد ورد عن الإمام مالك من رواية يَحيى الليثي قال: "سمعت مالكًا يقول في صيام ستة أيام بعد الفطر من رمضان: إنَّه لم يَرَ أحدًا من أهل العلم والفقه يصومها، ولم يبلغني ذلك عن أحدٍ من السلف، وإنَّ أهلَ العلم يكرهون ذلك، ويَخافون بدعته، وأنْ يُلحِقَ برمضان ما ليس منه أهلُ الجهالة والجفاء، لو رأوا في ذلك رخصة عند أهل العلم، ورأوهم يعملون ذلك". وقد أجاب جمهور العلماء على القائلين بالكراهة، بأن خوف توهم الوجوب والإلحاق برمضان ومشابهة أهل الكتاب ينتفي بفطر يوم العيد، فإنه يقطع التتابع، وينفي الإلحاق. أما ما جاء عن مالك رحمه الله من أنه لم ير أحدًا من السلف يصومه، فليس بحجة، لأنه إذا كان لم ير هو فغيره رأى، والأحاديث الصحيحة الواردة في فضل صيامها، لا يمكن ردها، وقد اعتذر ابن عبد البر لمالك رحمهما الله في الاستذكار بأنه لم يبلغه حديث أبي أيوب رضي الله عنه. (ج3، ص380). كيفية صيام الست من شوال: تصام أيام الست من شوال متتابعة أو متفرقة على سواء، لأنه لم يرد في ذلك سنة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وما ورد عن العلماء في ذلك إنما هو محض اجتهاد في بيان الأفضل. فقال بعضهم الأفضل أن تصام متتابعة بعد العيد مباشرة، وقال آخرون الأفضل أن تصام متفرقة كل اثنين وخميس، أو مع الثالث والرابع والخامس عشر من الشهر، قبلها أو بعدها، وهذه كلها استحسانات من العلماء تختلف باختلاف الأنسب من وجهة نظر صاحب كل رأي منهم. فمن نظر إلى قوة العزيمة ومغالبة الفتور، قال بأفضلية الصيام عقب العيد مباشرة، ومن نظر إلى مناسبة العيد والأيام التي بعده من حيث أنها أيام زيارات ومجاملات وأكل وشرب، قال بأفضلية تفريقها. صيام الأيام الست بعد شوال: ورد في حديث ثوبان عند الإمام أحمد (من صام ستة أيام بعد الفطر .. الحديث)، دون تحديد بشهر شوال، فقال بعض العلماء أن فضل صيام الأيام الست يثبت حتى ولو تأخر صومها عن شوال، لأن الثواب الموعود به لا يختص بشهر شوال وحده، فالحسنة بعشر أمثالها في كل الأوقات والشهور، قال بذلك بعض أهل العلم، بل قالوا صيامها في غير شوال أفضل، لأن: "محل تعيينها في شوال على التخفيف في حق المكلف لاعتياده الصيام لا لتخصيص حكمها بذلك" (مواهب الجليل، ج2، ص414). ولكن فقهاء الشافعية فهموا من التخصيص بشوال معنى أبدع من ذلك، فقالوا أن صيام ستة أيام من شوال بعد رمضان، يلحقها برمضان في الأجر، فيكون للأيام الست من الأجر مثل أجر أيام رمضان، "أي كصيامها فرضا" (مغني المحتاج، ج2، ص184). ولا شك أن قول الشافعية هو الأرجح، أولًا: لأن التخصيص لابد له من فائدة، وما ذكره المالكية من أن الفائدة هي التخفيف لا يُسلَّمُ لهم لأن التخفيف يحصل بالإطلاق لا بالتقييد، فلو أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بصيامها مطلقة من غير تقيد بشهر شوال، لكان أخف من غير شك، فلذلك لا وجه لما قاله المالكية في ذلك، ولا يبقى غير ما ذكره الشافعية من أن التقييد بشوال لقربه من رمضان، فيلحق به في الفضل. كيف تصوم المرأة الأيام الست شوال:من أفطر في رمضان لعذر، من مرض، أو سفر، رجلًا كان أو امرأة، وكذلك إذا أفطرت المرأة أيامًا من رمضان بسبب الدماء الموجبة للفطر، فإنه يشرع في حقه وحقها أيضا صيام الست من شوال، ولكن كيفية ذلك تتوجه على أوجه ثلاثة، بعضها أولى من بعض، فأفضل الكيفيات وأسلمها من الاختلافات الفقهية، أن يبدأ المسلم أو المسلمة بصيام ما عليه فيقضيه أولًا ثم يشرع في صيام الأيام الست، إن قدر على ذلك، فهذه الطريقة مقدمة في الفضل باتفاق العلماء. والكيفية الثانية أن يصوم النفل أولًا ويؤخر الفرض، فيبدأ بصيام الست من شوال ثم يصوم ما عليه بعد ذلك، وقد أجاز هذه الكيفية بعض العلماء، قال الخطيب في المغني على المنهاج: "تنبيه: قضية إطلاق المصنف استحباب صومها لكل أحد، سواء أصام رمضان أم لا، كمن أفطر لمرض أو صِبًا أو كفر أو غير ذلك، وهو الظاهر كما جرى عليه بعض المتأخرين" (مغني المحتاج، ج2، ص184)، وكذلك قال ابن مفلح: "يتوجه تحصيل فضيلتها لمن صامها، وقضى رمضان، وقد أفطره لعذر، ولعلَّه مرادُ الأصحاب، وما ظاهره خلافه خرج على الغالب المعتاد، والله أعلم" (الفروع، ج5، ص86). وأما الكيفية الثالثة فهي أن يجمع بين الفرض والنفل في صوم واحد، فيصوم أو تصوم ما عليهما مما وجب قضاؤه في نفس أيام الست من شوال، تشريكًا في النية بين الفرض والنفل، مثل تحية المسجد وصلاة الفرض إذا اجتمعا في وقت واحد، وقد أجاز ذلك بعض العلماء، قال الخطيب: "ولو صام في شوال قضاء أو نذرا أو غير ذلك، هل تحصل له السنة أو لا؟ لم أر من ذكره، والظاهر الحصول. لكن لا يحصل له هذا الثواب المذكور" (مغني المحتاج، ج2، ص184). وقال ابن مفلح: : " ويتوجه تحصيل فضيلتها لمن صامها وقضاء رمضان وقد أفطره لعذر, ولعله مراد الأصحاب" (الفروع، ج5، ص86). والحاصل أن بعض العلماء أجاز الجمع بين الصومين في وقت واحد لكنهم نبهوا على أن ذلك لا يحصل به الثواب الكامل، الذي بشر به النبي صلى الله عليه وآله وسلم. فلذلك كانت هذه الكيفية غير مُرَغَّبٍ إليها، إلا لمن كان عنده من العذر ما يجعل وقته وجهده لا يتسع للعملين كل على حدة، كالمرضى وبعض الضعفاء والمرضعات والحوامل الذين يصومون الشهر، ويفطرون منه بعض الأيام للعذر، فهؤلاء ينصحون بالقضاء في شوال إذا تيسر لهم ذلك وينون بها السنة مع الفرض، ليحصل لهم أصل الأجر، ثم هم بعد معذورون مأجورون بما في وسعهم من البذل. والله أعلم.
مشاركة :