في مذكراته الشهيرة المعنونة “ذاكرتي” والتي ترجمها مروان حداد، كتب المخرج الإسباني العالمي لويس بونويل يقول “ما كان شتاينبك أن يكون شيئا لولا المدافع الأميركية، وأضع في الخانة نفسها دوس باسوس وإرنست هيمنغواي، فمن كان سيقرأ أعمالهم لو أنهم ولدوا في بارغواي أو تركيا. إنها سلطة البلد هي التي تقرر مسألة المبدعين العظام. غالدوس مثلا روائي كثيرا ما قورن بدوستوفيسكي، لكن هل هناك من يعرفه خارج إسبانيا؟”. هذا المعنى لا يغيب عن متابعي مينا مسعود الكندي الجنسية ذي الأصول المصرية، بطل النسخة الجديدة لفيلم “علاء الدين” الذي أنتجته مؤخرا شركة ديزني العالمية، وأبهر أوساط الفن في هوليوود. صار الفنان الشاب ملء السمع والبصر في العالم لأنه ابن هوليوود لا القاهرة. والمعنى ذاته قريب مما جرى مع الممثل المصري المهاجر رامي مالك، الذي لعب البطولة في فيلم “بوهيميان رابسودي”، وحصل على جائزة الأوسكار هذا العام. جيل جديد لأبناء المهجرمسعود المولود في 17 سبتمبر 1991 لا يختلف كثيرا عن مالك في أصله المصري، وعائلته المتعلمة تعليما جيدا، أو انتمائه لأقلية مسيحية في بلد عربي مسلم، قررت الهجرة إلى الشمال بحثا عن مستقبل أفضل لأبنائها. يتقارب الاثنان في الميول والأفكار والكثير من الصفات الاجتماعية والثقافية، والفارق العمري بينهما لا يتجاوز العشر سنوات لصالح مالك. يجدد هذا التفوق الثقة في قدرة الأجيال الجديدة على التأقلم مع قيم العولمة، وكسر الحدود الثقافية، والولوج إلى العالمية، بعيدا عن إحباطات الخارطة السياسية المحلية. وكان منصور مسعود، والد مينا الذي يعمل مهندسا متخصصا في الأقمار الصناعية قرر الهجرة ومعه زوجته جورجيت وأبناؤه الثلاثة مينا ومارغريت وماريام إلى كندا عام 1995. ويمثل هذا التوقيت ذروة تصاعد العمليات الإرهابية ضد الأقباط في مصر، بعد فتوى أطلقتها الجماعة الإسلامية باستحلال الاستيلاء على أموالهم. مينا مسعود لا يختلف كثيرا عن حامل أوسكار هذا العام رامي مالك في أصله المصري، وعائلته المتعلمة تعليما جيدا، أو انتمائه لأقلية مسيحية في بلد عربي مسلم، قررت الهجرة إلى الشمال بحثا عن مستقبل أفضل لأبنائها ولم يكشف الوالد لأحد أن هجرة العائلة كانت بسبب شعورها بهذا التمييز الديني الذي فرضته جماعات متشددة. وشهدت تلك الفترة إقبالا من الأقباط على التقدم بطلبات هجرة إلى أميركا وكندا. ولم يكن الطفل الصغير البالغ من العمر ثلاث سنوات ونصف السنة وقتها يعي كثيرا مما يدور حوله، لكن قراءة الحوارات التي أجرتها بعض وسائل الإعلام الأميركية معه مؤخرا تكشف أنه تأقلم سريعا مع المجتمع الكندي، وشب في ظل ثورة التكنولوجيا وميلاد مواقع التواصل الاجتماعي ليجد نفسه مُتقنا للحياة الغربية بتفاصيلها، مع الشعور بالتميز النسبي عن أقرانه لحمله ملامح شرقية. هناك نماذج عديدة لأبناء الجيلين الثاني والثالث من المهاجرين العرب في أميركا فهم مفتونون بالسينما، ويعتبرون أنفسهم جديرين بالريادة فيها، بدليل ما حكاه مجدي الأسيوطي، مدير فندق سياحي بنيوجيرسي في الولايات المتحدة، والمقيم هناك منذ الثمانينات لـ”العرب” بأن ابنه نشأ على حب السينما والتمثيل، وهو وأحد أصدقائه في سن الخامسة عشرة شاركا في مسلسل شبابي كممثلين. وأضاف الأسيوطي أن الكثير من أبناء الجاليات العربية يتجهون إلى التحقق عن طريق الفن والإبداع، وثمة فكرة عامة يؤمن بها الجيل الجديد مفادها أن الفن تحرر تماما من التمييز، والإبداع لم يعد قاصرا على أجناس، كما أنهم يعتقدون أن الملونين، من ذوي الأصول الشرق أوسطية، لديهم فرص أفضل في السينما العالمية التي تبحث عن التغيير. التمييز الشكليإذا كانت عائلة مينا قد أفلتت من شعور حقيقي بالتمييز المجتمعي الذي صار أكثر وضوحا بعد صعود السلفية الدينية خلال التسعينات، فإنه اختبر شعورا قريبا منه بالتمييز اللوني والشكلي في مدرسته العليا بتورنتو من قبل البعض. يقول مسعود في حوار صحافي لمجلة “هير” نشر قبل أيام “كنت أشعر بالتمييز في المدرسة، لكنه لم يكن إلى حد الازدراء.. كان أحد الدلائل في تصوري عدم ضمي لأي فريق كرة سلة، رغم براعتي وتفوقي في هذه اللعبة”. ذلك الشعور كان دافعا له إلى المقاومة والإصرار على التفوق بدعم من والده الذي كان دوما يقول له “لا تنتظر من الناس أن يفضلوك عن غيرك. اصنع ذلك بنفسك”. وقتها شعر أنه قادر على التقليد والغناء والرقص، قبل أن يبرع في المحاكاة التامة لمثله الأعلى الفنان الكوميدي الراحل روبن ويليامز، الذي أدمن حركاته وأسلوبه الساخر، لكن عائلته كانت لها رأي آخر. بعض وسائل الإعلام تعمل على تشويه صورة مينا مسعود أو التقليل من نجاحاته، إلى درجة الادعاء بأن قصة "علاء الدين" نفسها هي تنميط للصورة السلبية للعرب لدى المجتمع الغربي، باعتبارهم يركبون الجمال ويعيشون في الصحراء كان الطريق التقليدي للتميز لدى غالبية العائلات المصرية المهاجرة إلى أميركا وكندا يتمثل في التفوق العلمي والتخصص في مجالات نادرة، لذا قبل مسعود في البداية نصيحة والده بدراسة جراحة الأعصاب ليصبح طبيبا بارعا. وبالفعل التحق بجامعة تورنتو، لكنه لم يستطع المُضي في الطريق الذي خططه له والده حتى النهاية. وتلك سمة اختلاف كبيرة بين المجتمعات الغربية والعربية. ففي الأولى لا يمكن هدم حلم ابن لصالح الأب، وفي الثانية يتصور الكثير من الأبناء أن طاعة الآباء تعني فعل ما يريدون دون حق الاختيار والاختبار. لم يكن صعبا أن ترضخ الأسرة لاختيار الابن دراسة التمثيل، لأنه وجد نفسه في أدوار مسرحية بالمدرسة، مثل دور بيتر بان الشهير، وبالفعل التحق بمدرسة مريسون للفنون المسرحية، وانطلق متقنا الغناء والرقص والتمثيل، بأمل وطموح في التميز والتحقق. رأى مسعود نفسه جديرا بالتمثيل في هوليوود، لكنه عمل نادلا في عدة مطاعم ليتمكن من تدبير كلفة السفر إلى أميركا والإقامة في لوس أنجلس كي يتمكن من التقدم للاختبارات الفنية هناك. تغيير كبير شهدته هوليوود في الآونة الأخيرة، وكان محل ملاحظة مسعود، هو أن السينما تستعين بكثير من الملونين في أفلامها الحديثة. ولم يعد الأمر قاصرا على البيض أو السود، كما كان معتادا، فقد شارك عدد كبير من الموهوبين من أصول متباينة في أعمال سينمائية كبرى. هكذا وجد ممثلون من الهند وتركيا وإيران يطلبون للعمل في هوليوود، ثم انفتح المجال تماما لفنانين من أصول مصرية وتونسية وجزائرية.يرجع ذلك إلى أن العولمة وتطور التكنولوجيا لم يذيبا حدود اللغة وحدها، لكنهما أذابا أيضا الاختلاف في اللهجات داخل كل لغة، فصار من المقبول أن يؤدي ممثل هندي دور المواطن الأوروبي ويظهر الشخص الصيني كمواطن أميركي. ظهر مسعود لأول مرة في دور شخص شرقي عضو في تنظيم القاعدة في فيلم بعنوان “نيكيتا”، أهله بعد ذلك لأن يكون ضيف شرف في عروض وأفلام أخرى تتطلب ظهور شخص عربي أو شرق أوسطي، مثل سليمان الذواب أو مالك الأتاسي، ثم أدى دور طارق كسار في مسلسل “تومز كلانسي”، وارتبط به الجمهور وعرفه من خلالها. تحول المسيرة الفنية جاء التحول الكبير في حياته عندما شاهد مسعود إعلانا لشركة “ديزني” لإنتاج نسخة جديدة من فيلم “علاء الدين”. تلك الشخصية الشرقية التي وردت في قصص ألف ليلة وليلة والتقطتها السينما العالمية وحولتها إلى أسطورة فنية حية في نفوس أجيال عديدة. تحكي الأسطورة أن الصبي علاء الدين كان يدور في الطرقات يبحث عن الخير والحب حتى التقى الأميرة ياسمين وأحبها، لكن بعض رجال القصر الأشرار يتآمرون عليه ويلقون به في السجن، حتى يخرج له الجني ويساعده ليخرج من السجن ويعبر من الأهوال التي يواجهها حتى ينتصر على الشر ويتزوج من الأميرة. كان مسعود مُعجبا بالفيلم القديم ومتابعا للأسطورة التي تعود لجذوره العربية. تملكته الشخصية صغيرا، فشعر أنه الشاب الطموح الذكي القادر على الفوز بقلب الأميرة ياسمين. تقدم ضمن مواهب كثيرة رأوا في أنفسهم الموهبة والقدرة على تجسيد الشخصية الأسطورية، وسافر إلى إنكلترا للتقدم ضمن أكثر من ألفي شخص من 22 دولة. وخاض الطموح في غمار منافسات وتصفيات عديدة واحدة بعد الأخرى حتى اجتازها جميعا، وبات الأنسب لأداء الشخصية وتم التعاقد معه. من حوارات مختلفة أجريت معه يمكن قراءة عدة جوانب هامة في شخصية مسعود، أهمها إيمانه الراسخ بأن النجاح ليس وليد ضربات حظ، وإنما نتاج جهد حقيقي وإخلاص وتفان شديد في الأداء الأمثل، وهكذا عمل بجدية للانصهار في دور علاءا لدين. حرص على الاستفادة من نصائح ذوي الخبرات والتجارب دون تكبر أو ترفع، وآمن بنصائح النجم العالمي ويل سميث الذي أدى دور الجني في الفيلم نفسه، ووقف إلى جواره معضدا ومساندا، واهتم بكل ملاحظات مخرج الفيلم غوي ريتش ليقدم أفضل أداء ممكن، وسعى إلى التأقلم والتآلف مع الممثلة ناعومي سكوت التي قدمت دور الأميرة ياسمين. شعر مسعود أن المستقبل هو ما يجب أن يهتم به، وعليه الحفاظ على التفوق وتكرار النجاح، الأمر الذي تحقق في فيلم “علاء الدين”، لكنه لا يزال يقول “هذا جيد. وماذا بعد؟ إنها بداية الرحلة فقط”. وهو ما دفعه إلى أداء دور محلل استخباراتي في مسلسل “جاك ريان” وشارك في مسلسل آخر باسم “أخذا بالثأر”، فضلا عن فيلم “غريب لكنه حقيقي”. عربي طبيعي اقترن أمر آخر غير الموهبة بالممثل الشاب، وهو أنه لا يتنكر لأصوله العربية ولا يخجل منها. يُصر أحيانا على الحديث بلغة عربية جيدة تعلمها من والديه. ويقوم بين الحين والحين ببث فيديو عبر مواقع التواصل الاجتماعي يدعو فيها العرب إلى مشاهدة أعماله ودعمه، ولا ينسى أن يختم حديثه بعبارة “تحيا مصر” تأكيدا على هوية أصيلة لا يريد التنصل منها، وصرح لإحدى الصحف بأنه تعلم الكوميديا من الفنان المصري عادل إمام وأحب الغناء من عبدالحليم حافظ. يمثل هذا الجانب نوعا من الذكاء الاجتماعي، وقدرة على توظيف سمات وصفات متنوعة للترويج لنجوميته، خاصة عندما سافر طاقم فيلم “علاء الدين” إلى صحراء الأردن قبل شهور لتصوير بعض المشاهد في رحلة طالت 12 يوما، وتحدث بمحبة طاغية عن البلد العربي الذي قدم نموذجا واقعيا للصحراء، وشكر الشعب الأردني في كثير من حواراته وإطلالاته باعتباره “شعبا كريما وأصيلا وبسيطا وطيبا”. ولم ينس مسعود أن يقول إن الأردن يذكره ببلاده الأصلية مصر، رغم أنه غادرها وهو في الرابعة من عمره. كاد النجم الحاذق، صاحب الشعبية الواسعة بين الشباب العربي أن يسقط في فخاخ السياسة دون قصد عندما بث فيديو له وهو يأكل ــ باعتباره نباتيا ــ في مطعم إسرائيلي بأميركا يقدم أكلات عربية تحت زعم أنها إسرائيلية، وفوجئ بانتقادات وغضب تجاهه من الجمهور العربي، الذي اعتبره متجاهلا للقضية الفلسطينية ومصدقا لمزاعم إسرائيل، وحاول التملص بالاعتذار عن الموقف، مؤكدا أنه لا يفهم كثيرا في السياسة. استغلت بعض وسائل الإعلام الحدث لتشويه مسعود أو التقليل من نجاحاته، إلى درجة الادعاء بأن قصة “علاءا لدين” نفسها هي تنميط للصورة السلبية للعرب لدى المجتمع الغربي، باعتبارهم يركبون الجمال ويعيشون في الصحراء، لكن البعض من المبدعين والنقاد رأوا فيه نموذجا نادرا لفنان ذكي ومُجتهد.
مشاركة :