الغابة التي تخفيها شجرة نظرية المؤامرة

  • 6/12/2019
  • 00:00
  • 6
  • 0
  • 0
news-picture

وردني من أحد الأصدقاء القدامى ملاحظة حول ما أسماه «خطورة سيطرة نظرية المؤامرة على تفكيرنا نحن العرب، حتى تحولت إلى معيق أمام القدرة على الفهم والتحليل للأحداث التي تقع في عالمنا، فهي مجرد وصفة جاهزة نفسر بها كل شيء، حتى الفيضانات والزلازل، فما أن تصيبنا من مصيبة أو كارثة أو هزيمة حتى أحلناها بسرعة، وبشكل آلي، إلى الآخرين؛ الاستعمار القديم والجديد، الأعداء الحقيقيين أو الوهميين، الكفار ووو، إلى آخر سلسلة الإحالات التي لا تنتهي! فإلى متى نظل نفكر بهذه الطريقة الغريبة التي تجنبنا مواجهة الاستحقاقات الحضارية والسياسية والاقتصادية والخيارات الصعبة؟ فهل من المعقول أن نمضي قدما في هذا الطريق الخاطئ، متجنبين بذل أي جهد في تغيير أوضاعنا بعد تشخيصها بشكل موضوعي؟ وهل من المعقول أن نركن إلى هذه النظرية الجاهزة، لنعلق عليها مصائبنا وأخطاءنا وما نحن عليه من تخلف وضعف؟». كتبت للصديق: لا أريد أن أقف موقفا قاطعا بنفي التآمر الذي يتعرض له الوطن العربي؛ لأن التآمر موجود بالفعل ولم ينقطع في يوم من الأيام، وهو ملموس ونعيش على وقعه منذ قرون، ولكني لا أستطيع في ذات الوقت القبول بهذه النظرية الجاهزة على هذه الشاكلة الساذجة التي تؤدي إلى إعفاء أنفسنا من مسؤولية المساءلة والمواجهة لحقائق الأمور، وتغيير وضعنا البائس.  الحقيقة التي أراها - مع الإقرار سلفا بوجود التآمر الذي تترجمه المصالح الأجنبية في البلاد العربية، والصراع على الهيمنة من قبل القوى الدولية والإقليمية المتصارعة من أجل السيطرة علينا - أن المشكلة الرئيسة أننا كعرب لا نمتلك مشروعا جامعا (مثل الاتراك والإيرانيين والإسرائيليين)، ولا نمتلك مشروعًا سياسيًا، ولا حتى مشروعا ثقافيا جامعا، ولا خطة ولا استراتيجية ولا هم يحزنون. إضافة إلى كوننا مجتمعات هشة، مترددة حائرة، لم تنجح في حسم أي قضية من قضاياها الجوهرية. ولأننا كذلك، أصبحنا قابلين للاختراق من الخارج ومن الآخرين، وقابلين ليجري التآمر علينا، وضدنا بسهولة مدهشة. هكذا أفهم الأمر بداهة!  جاءني رد الصديق: «إن نظرية المؤامرة -يا صديقي- من وجهة نظري خطيرة ومخيفة، بالرغم من كونها مريحة للعقول الكسولة التي تميل إلى الأخذ بالأجوبة الجاهزة، مثل القول إن الصهيونية العالمية والدول الكبرى هي التي تدير العالم، وأنه لا حول لنا ولا قوة لمواجهة تلك المخططات الخبيثة، (هكذا). إن المصيبة الكبرى تكمن في اعتقادنا بأننا نمتلك الأجوبة عن جميع الأسئلة الكبرى، وأنه لا داعي للتفكير والتحليل، فالأمور واضحة تمام الوضوح، (فكل أمر محتوم ومعلوم وقدري)، في حين أن مهمة الفكر هي طرح المزيد من الأسئلة وتحويل كل جواب إلى سؤال مثلما كان يقول الفيلسوف الألماني كارل ياسبيز، وأننا في البلاد العربية لن نتغير ولن يتغير حالنا إلا إذا غادرنا محطة الأجوبة اليقينية النهائية وبدأنا بتأسيس ثقافة جديدة قائمة على السؤال، وإنتاج ثقافة الأسئلة، نقيضا لثقافة الأجوبة الجاهزة والمسلَّمات الجاهزة، ولثقافة السكوت والمسكوت عنه.. والحرص على كشف المعوقات الذهنية والعراقيل التاريخية والاجتماعية التي تعوق التقدم، وإعادة طرح سؤال العقل العربي، في شرطيه المعرفي والتاريخي، وكيفية تجاوز الواقع الراهن والسخيف من أجل دخول حداثة حقيقية وليس قشرية مزيفة!».  كتبت للصديق مستكملاً الصورة: أتفق معك تمامًا في التوصيف، وأضيف إلى ذلك حقيقة أخرى غالبا ما نتجاهلها أو نقلل من أهميتها، وهي غياب الحرية وغياب الديمقراطية في عالمنا العربي، فغيابهما أساس كل بلوى تقريبا. فكل مجتمع يغيب عنه الفكر الحر، ولا يقوم على أساس احترام الحريات العامة والخاصة، وصيانة حقوق الإنسان في جميع الأوضاع والحالات، لا يمكن أن يكون مجتمعا متقدما، وأي مشروع لا ينهض على أساس ذلك لا يمكن أن يكون مشروعا قابلا للنجاح والاستمرار. ومن هذا المنطق فإننا نعتقد أن بناء الديمقراطية واستمرارها لا يمكن أن يتحقق من خلال القوى الاجتماعية المحافظة المتسيدة اليوم للساحة، والمرتكزة على ثقافة تقديس رجال الدين، وتغييب العقل والمساءلة؛ لأن الديمقراطية نتاج الحداثة والحرية واحترام الحق في الاختلاف وتعايش الأفكار على اختلافها. كما أن الديمقراطية لا يمكن أن تنبت أبدًا عن مسألة الحداثة التي اقتصرت في أغلب البلاد العربية على (التمدن المادي الخارجي المظهري) مع الاحتفاظ بالبنى ما قبل الدولة مهيمنة على حياة الفرد ومصيره وعلى حياة المجتمع ومصيره. بالإضافة إلى الغياب شبه الكلي لمظاهر وحدة الدولة في معظم البالد العربي، فإن الحداثة التي نتحدث عنها اليوم، لا علاقة لها بالحداثة المتعارف عليها في العالم، كذلك الشأن بالنسبة لمدنية الدولة وغيرها من العناصر الأخرى، فنحن مجتمعات تحل اللغة محل الواقع، بل وتعتقد أنها بمجرد استخدام مصطلحات الحداثة قد أصبحت حديثة، وبمجرد استخدام مصطلحات الحرية قد أصبحت حرة.. وهكذا!! ومن المفارقات العجيبة أنه حتى بعض الأحزاب والجمعيات السياسية في معظم البلاد العربية، والتي تستخدم في عناوينها وشعاراتها وأدبياتها مصطلحات الحداثة والحرية والديمقراطية، لا تزال تعاني في الغالب من تناقض غريب بين متطلبات هذه الشعارات والمبادئ، وبين طبيعة تكوينها وفكرها وسجالاتها الأيديولوجية. فجزء كبير منها لا يزال في الحقيقة سجين الرؤى المنتمية إلى ما قبل الدولة، وليست الحداثة ولا الحرية ولا الديمقراطية لديها في الواقع العملي فكرًا راسخًا، ولا قناعة تامة، ولا آلية للحكم في الممارسة العملية. تلك هي المشكلة يا صديقي أو الغابة التي تخفيها شجرة نظرية المؤامرة. همس تموت السماوات في هذا النهار والأشياء الراحلة  لا تريد البقاء والعمر ذهاب يسكن القلب والشمس تطلع آخر النهار. تائه في غربة السؤال.. التفت ورائي، فإذا القمر لا يرتحل لا ينصت لخفقة الكون  كل مساء. أرحل  فما عاد في القلب لحن  ولا البحر  يعيد عليّ طرح السؤال..

مشاركة :