باريس.. المعبر الثقافي نحو الحلم | واسيني الأعرج

  • 4/2/2015
  • 00:00
  • 12
  • 0
  • 0
news-picture

تشكل باريس منطقة عبور لكل المثقفين العالميين.. الكثيرون عبروها، وكانت سببًا في شهرتهم، كما تركت فيهم آثارا كبيرة حياتيا وإبداعيا. نابوكوف عبرها قبل أن يستقر به الأمر في أمريكا، إسماعيل كداري رأى فيها جوهر الميراث الغربي، يونيسكو عشقها، كونديرا وأندري ماكين، وبونين الذي تحصل على نوبل، تبنّتهم المدينة، يونيسكو، نانسي هوستون، نديم غورسيل التركي، وجمال الدين بن الشيخ، عاشوا فيها وتبنّتهم، سنغور السنغالي، اللبناني أمين معلوف، الجزائرية آسيا جبار أصبحوا أعضاء في أعلى هيئاتها الثقافية، الأكاديمية الفرنسية. الفنان بيكاسو وسلفادور دالي صنعت باريس أسطورتهما. مدينة تستقبل وتتبنى المبدعين، وتعيد تشكيل رؤاهم وأفكارهم. هناك جاذبية خاصة في هذه المدينة. بنيتها الثقافية في جوهرها، كانت دائما قريبة وغير عنصرية، لأنها متفتحة على الجميع، وتمنحهم شيئين أساسيين لضمان الكتابة الحية: الأمان والحب، وتبقى مشكلات الحياة على الإنسان مواجهتها بالإمكانات المتاحة لديه، إذ عليه أن يجيب على معضلات اليومي والقاسي، لكنها تطلب منه قلبا كبيرا وقدرة عليا للإحساس بها كأية امرأة جميلة ومعشوقة، وعشاقها كثيرون، بعضهم عرفها عميقا، والبعض الآخر ظل على هوامشها. مدينة كوسموبوليت. مفتوحة عن آخرها أمام الغريب الذي حين يتوطن، لا يصبح غريبا. باريس مدينة الثقافة بامتياز. قاعات السينما، مسارحها، معارضها، وصالات الموضة الكبيرة، الأوبرا القديمة، غارنييه، والحديثة باستي. عمران متنوع وجميل من النموذج الهوسماني حتى الموديرن والصالات الكبرى كالزينيث، والمؤتمرات وقاعة السيغال والأولمبيا للعناء، ثم قاعات رياضة التنس رولان غاروس وغيرها... كلها تضع أمام المثقف المتعدد كل إمكانات الثقافة بمعناها المتنوِّر والحي. المدينة في النهاية ليست حجارة وبنايات وعمران، لكنها حياة يومية أيضا. لهذا من يسير في باريس الداخلية، لا يشعر كثيرا بالزمن ولا بالمزالق العنصرية. بل يشعر بدفء خاص يتجلى منها. ليس عبثا أن يركض نحوها الفنانون المضطهدون. ماذا عن مدننا العربية التي في القلب؟ كانت بيروت مدينة تمنح الأمان والتعبير الحر والفن، وتستقبل الفارين من أنظمة الموت العربية، مدينة المتناقضات كما المدن الكبرى. لكن فجأة أكلتها الحرب الأهلية، وضاقت بيروت على ضيوفها وذويها حتى أصبحت طائفة أو حزبا سياسيا أو جهة. ربما كانت بيروت هي النموذج الكوسموبوليتي الوحيد عربيا. كانت بغداد أيضا مدينة الحضارة والرفاهة الثقافية، فضاقت حتى أصبحت مذهبا دينيا أو مجموعة مسلحة، هي اليوم كومة من الانهيارات والخوف. انسحبت دمشق من المشهد، والتي عشقتها كل القلوب المتشوقة، لتصبح اليوم كومة رماد، نارا في كل مكان. عندما تموت المدن الكبيرة وتضيق على ذويها، يكون عصر قد انتهى بثقافته وناسه وأبطاله وخائنيه، وحل محله زمن بلا وجه ولا حب ولا خير. المثقف العربي يعيش اليوم حالة طارقية (طارق بن زيان) شديدة التعقيد. الخراب الكلي وراءه، والرماد فيه، والنار أمامه ولا حل له سوى أن يبقى في مكانه، ويفكر طويلا هل استطاع العربي أن يؤسس لمدن حقيقية غير تلك القرى الواسعة التي نسميها اليوم مدنا، ويحولها إلى حلم يشبه قلوبنا الخضراء، ويسخر فيها العربي عقله وحلمه لإيجاد حل لمأساته التي تسكنه منذ قرابة المائة سنة الأخيرة؟!

مشاركة :