استطاعت التكنولوجيا الحديثة أن تعيد ترميم بعض الأفلام الوثائقية التي كانت تالفة. بعضها يعود لفترة الحرب العالمية الأولى، والبعض للحرب الثانية التي كانت أكثر دموية؛ إذ تشير بعض التقديرات إلى أن ضحاياها وحدها يصلون في أعلى التقديرات إلى 86 مليون قتيل. لفت نظري فيلم قصير لا يتجاوز خمس دقائق لمحاكمة ضابط ألماني قام بالتجسس لمصلحة الحلفاء. كان المشهد مهيبا ومخيفا. لك أن تتخيل محكمة عسكرية ألمانية في ذروة النازية كلها من قادة الجيش الألماني. سأل القاضي بوضوح: هل تعاونت مع الأعداء وخنت ولاءك للفوهرر؟ لتأتي الإجابة: نعم، لقد تعاونت معهم ونقلت لهم معلومات مهمة. يسأل القاضي: لماذا خنت الفوهرر؟ وهنا تأتي الإجابة صاعقة: لأنني أعتقد أنه مجرم حرب، وأن يديه ملوثة بدماء الملايين من الأبرياء، وسيذكره التاريخ دوما كقاتل ومجرم. هنا ينتفض القاضي وكثير من الموجودين صارخين: اسكت... اسكت... لا تتكلم... كيف تجرؤ؟ أصابهم هلع يساوي خوفهم من الموت بسبب صدق الرجل الهادئ، الجميع ساعتها ارتعشت قلوبهم بسبب شخص وحيد ضعيف مكبل بالقيود الحديدية ويعرف أنه ميت لا محالة، لكنه ينطق بالصدق الذي يعرفونه في أعماقهم. هذه هي حالة المواجهة دوما يا سادة بين الصدق والكذب، ربما يكون الكذب هو السائد والمسيطر على كل الحواس عبر الإعلام في فترة تاريخية بعينها، لكن الصدق دوما أقوى وأهدأ صوتا، ويملك المستقبل. وأحسب أن العنصرية هي حالة قصوى من الكذب التاريخي، الذي يُستخدم دوما للتغطية على مشكلات أخرى لا يريد العنصري ومن يستخدمه الاعتراف بها. العنصرية كذب، لأنها وهم خالص بتفوق بعض البشر على بعضهم بسبب الأصل أو الثروة أو الوضعية الاجتماعية، وهي وهم يكتسب لدى معتنقيه قوة الحقيقة، لكن هناك دوما شيء ينغص في العمق، ويشير إلى أن الإنسانية ليست كذلك. خطورة العنصرية دوما هي أنها صاخبة هادرة عنيفة، تخيف من يريد الوقوف أمامها، العنصرية هي هتلر كل زمان ومكان، وهي في الوقت نفسه تلامس شيئا داخل الناس يريحهم، رغم شعورهم بزيفه، لأنه يمنحهم شعورا بالتفوق المجاني الذي لا يكلفهم شيئا، وليس التفوق العادل المبني على العمل والجهد والترقي العقلي والإنساني. العنصرية صاخبة وكاذبة في الوقت نفسه؛ لأنها غالبا تقود البشر إلى مزيد من الكراهية، وتملأهم بمشاعر التكبر والثقة الزائفة في كل ما يفهمون عن الحياة وعن أنفسهم، والأخطر أنها تقودهم إلى مزيد من الكسل على كل المستويات؛ فلماذا عليّ أن أتعب نفسي وأنا متفوق بالولادة، أو بحكم وضعي الاجتماعي، أو القومي؟ العنصرية كذبة تاريخية تشبه النازية والفاشية، مصيرها إلى الانتهاء بمثل ما انتهى هتلر؛ حيث سيتحول كل العنصريين إلى عار تاريخي على أهلهم، وسيحاول قومهم - كما تفعل ألمانيا الآن - أن تتبرأ منهم أولا، وإن لم يتمكنوا فسيعتذرون بأسف وألم، كما تفعل ألمانيا الآن مع تاريخها النازي البشع. من يستسهل العنصرية/ الكذب الآن يقود أبناءه وأحفاده إلى مأزق تاريخي صعب. ومن يقف ليقول كلمته الصادقة بوضوح أمام محكمة التاريخ التي لا تغفل، سيكون فخرا لأهله وللإنسانية كلها، تماما كما فعل الضابط الألماني الذي قال لهتلر في قمة مجد: أنت مجرم.
مشاركة :