أعطى الله سبحانه وتعالى لرسوله الكريم صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم، ومن بلاغته قوله عليه الصلاة والسلام فيما رواه عنه عبد الرحمن بن سمرة: (ورأيت رجلاً من أمتي يلهث عطشاً كلما ورد حوضاً منع منه فجاءه صومه رمضان فسقاه وأرواه).فما أعظمك يا رسول الله وأنت تزف إلى الصائمين بشرى أن صيامهم سيكون نافعاً لهم في آخرتهم، مخففاً عنهم، ملبياً احتياجاتهم.إن هذا الكلام البليغ يطمئن الصائمين إلى أن ثواب صيامهم سيكون حاضراً معهم في أي وقت يحتاجون إليه، حتى أن الرسول صلى الله عليه وسلم جسد الصيام وخاصة صيام رمضان بتقديم الماء لصاحبه مروياً عطشه. شربة لا ظمأ بعدها وفي هذا المعنى يقول الدكتور أحمد عوض في كتابه (موسوعة بلاغة الرسول) «من فضل الله تعالى على الصائمين أن جعل جزاءهم من جنس عملهم، فها هو الصائم يسقيه الله تعالى من حوض رسوله صلى الله عليه وسلم شربة لا يظمأ بعدها أبداً، وها هو الصيام يأتي مدافعاً عن العبد في قبره يحول بينه وبين العذاب».«إن الصيام يأتي مرافقاً للعبد عندما ينفخ في الصّور وفي يوم القيامة نجد أبواباً أخرى من الخير وضحها هذا الحديث الشريف الذي يؤكد بلاغة الرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يخبرنا أن الصيام يغيث لهفة صاحبه يوم القيامة، عندما يظمأ الإنسان لشدة المشهد في ذلك اليوم أو لقلة زاده من الطعام غير أنه كان يصوم، أوكان يطعم الصائمين وكان يجوب عليهم فعندئذ لا يجد إلا الصوم منقذاً له من هذا العطش الشديد فمن أظمأ نفسه لله تعالى كان حقاً على الله أن يسقيه يوم القيامة».و«هنا نرى فضل الله تعالى في كون الصيام يباعد بين العبد والعذاب (ما من عبد يصوم يوماً في سبيل الله تعالى إلا باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النار سبعين خريفاً) فكل هذه المعاني التي جمع الخير من خلالها للصائم تتجسد له يوم القيامة في هذه الصورة البديعة التي نتلمس أركانها في هذا الحديث الشريف». الجانب الوصفي ويوضح أن الجانب الوصفي التمثيلي هو أساس بلاغة هذا الحديث الشريف، حيث يصف لنا صلى الله عليه وسلم حالة الرجل، فنجده (يلهث) ثم نراه عطشاً يسعى إلى النجاة وغايته أن يُدرك ماء يروي به ظمأه فإذا هو متخبط، كلما ورد حوضاً منع منه وعندئذ يُدركه الصيام ساقياً مغيثاً لهفته.. مروياً ظمأه.ويواصل الدكتور عوض إبراز الجوانب البلاغية في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم مؤكداً دقة التعبيرات وقوتها فيقول: «إن كلمة (يلهث) تدل على شدة العطش والبحث عن الماء، وكلمة (كلما) توحي بكثرة تردد الرجل على أحواض الماء راغباً في الشرب، أما كلمة (منع) فإنها توحي بالملائكة الذين يمنعونه من ورود الماء».«وقوله (فجاءه) نفهم منه سرعة إغاثة الصيام له؛ إذ جاءه حسياً وأخذ بيده إلى حوضه، وذلك من خلال التعبير بالفاء في أول الفعل فجاءه».ويتوقف الدكتور عوض أمام تتابع الجمل الفعلية في هذا الحديث الشريف، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (رأيت رجلاً) ثم يقول (يلهث عطشاً) ثم يقول: (فجاءه صومه رمضان)، وإن هذا التتابع في تصوير العلاقة بين المسلم والصيام يوم القيامة يدل على التحول من حالة إلى أخرى، واستخدام الرسول صلى الله عليه وسلم (الفاء) مرتين في هذا الحديث في الربط بين الجمل (فجأه صومه رمضان فسقاه وأرواه) يدلنا على سرعة الاستجابة لحالته وعلى ارتباط فعل الشرط بجوابه. تكفير الذنوب ونتوقف مع د. عوض أمام إعجاز بلاغي جديد للرسول صلى الله عليه وسلم، حيث يقول: (فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره، تكفرها الصلاة والصيام والصدقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، فهذا الحديث يبرز جانباً جديداً من فضائل صيام شهر رمضان، ذلك أنه مكفر للذنوب والخطايا، ومطهر للمسلم.ويقول: «إن الفرائض بتتبعها واستبيانها مثل النهر الجاري الذي يغتسل فيه المسلم كي يطهر نفسه ويغسل قلبه فتجتمع له طهارة الظاهر والباطن، ولا يخفى أن صوم رمضان بإيمان واحتساب يغفر ما تقدم من الذنوب كما أخبر بذلك الرسول صلى الله عليه وسلم». إن تكفير الذنوب للصائم ينسحب على صوم رمضان وعلى صيام التطوع مثل صيام يوم عرفة الذي يكفر ذنوب سنتين، وصيام يوم عاشوراء الذي يكفر ذنوب سنة. وقد جاءت إشارة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصوم مكفراً للخطايا ضمن الفرائض التي تغفر بها الخطايا وتذهب بها السيئات، فذكر الجملة الفعلية لجواب الشرط الصلاة والصيام والصدقة، وهذا تفصيل من الرسول صلى الله عليه وسلم لهذه الطاعات التي يمحو الله سبحانه وتعالى بها الخطايا التي يقع فيها المسلم. إن هذين الحديثين الشريفين واللذين يعدان من جوامع الكلم التي أعطاها الله سبحانه لرسوله صلى الله عليه وسلم يؤكدان بلاغته، ويرشدان المسلم إلى أهمية صيام شهر رمضان ويوضحان ضرورة الاستفادة بهذا الصيام في تكفير ذنوبه وفي نيل عظيم الثواب من الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وأهم الدروس التي يتعلمها المسلم أن صيامه بإيمان وإخلاص واحتساب لله عز وجل وحده يظل ملازماً له في الدنيا بتكفير الذنوب، وفي الآخرة بتلبية احتياجاته يوم المشهد الصعب الذي تعيشه البشرية كلها حيث يثاب المرء على ما قدم من خير في دنياه ويحاسب على ما اقترف من آثام.
مشاركة :