د. محمد السعيد إدريس عندما لاحت بوادر الفشل أمام بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة تسيير الأعمال «الإسرائيلية» في تشكيل الحكومة الجديدة، كان على قناعة تامة بأمرين، يمكن اعتبارهما الآن إما مفتاح حل الأزمة السياسية التي تواجه الكيان، وإما تأجيجها. الأمر الأول أنه من غير المسموح أن ينافس أي شخص آخر نتنياهو في تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات المقررة يوم 17 سبتمبر/ أيلول المقبل. هذا الأمر الذي سوف تحسمه نتائج تلك الانتخابات القادمة هو الذي يشغل نتنياهو للإجابة عن سؤال: كيف يمكن تأمين أغلبية مريحة للتحالف اليميني الذي يقوده كي يشكل الحكومة الجديدة، من دون منغصات تعرقلها؟ وهذا هو التحدي الأهم. أما الأمر الثاني فهو الثقة، إلى درجة اليقين، بأن أفيجدور ليبرمان زعيم حزب ««إسرائيل» بيتنا» (حزب المهاجرين الروس)، هو الذي تسبب بإفشال جهود نتنياهو في تشكيل الحكومة، واضطره إلى اتخاذ قرار حل الكنيست، بكل ما يحمله هذا القرار من مخاطر. ليبرمان رفض كل إغراءات نتنياهو للانضمام إلى ائتلاف الليكود، وتمسك بموقفه في الدفاع عن علمانية «الدولة»، وعن الجيش من خلال إصراره على تمرير قانون تجنيد اليهود المتدينين، وهو القانون الذي ترفضه الأحزاب الدينية، وتجعل من إسقاطه شرطاً لبقائها في ائتلاف اليمين الليكودي، لذلك كان القرار الخاص هو منع ليبرمان من تحقيق نتائج ملموسة في الانتخابات العامة المقبلة تمكنه مرة أخرى من تحدي نتنياهو في تشكيل حكومة يمينية، أي تصفية ليبرمان سياسياً.وإذا كان فريق نتنياهو بدأ سريعاً بطبخ مبكر لتوجهات الناخب «الإسرائيلي» من خلال تمرير استطلاعات رأي في الصحف الموالية، خاصة صحيفة ««إسرائيل» هيوم» التابعة له، مؤداها أن الانتخابات القادمة لن تغير كثيراً من نتائج الانتخابات السابقة، أي أن تكتل اليمين هو الذي سيفوز، بل سيحقق نتائج أفضل عكس التكتل الآخر المنافس (حزب أزرق- أبيض).هكذا تحددت معالم خطة نتنياهو الانتخابية: حرب نفسية عبر وسائل الإعلام، تروج لفوز محقق لتكتل اليمين بزعامة الليكود، ورئاسة نتنياهو لتكريس قناعة أمام الناخب «الإسرائيلي» أن الليكود هو الخيار الأوحد، أو على الأقل، الخيار الأرجح، إلى جانب العمل على إزاحة ليبرمان من التنافس السياسي، و«إماتته سياسياً»، إن أمكن، وهذا يعني أن متغيراً ثالثاً من شأنه أن يقلب كل حسابات نتنياهو يمكن أن يظهر ويفرض نفسه سياسياً في اللحظة الحرجة. ولسوء حظ نتنياهو أن هذا التحدي أطل برأسه فعلاً، متمثلاً في شخص إيهود باراك رئيس الحكومة وزير الحرب، وزعيم حزب العمل الأسبق الذي يفكر جدياً في أن يطرح نفسه مجدداً زعيماً لحزب العمل، وإعادة لملمة أشلاء هذا الحزب، وخوض التنافس الانتخابي باسم «تكتل اليسار» ليفرض معادلة جديدة من شأنها أن تقلب معادلة التوازن السياسي في غير مصلحة الليكود، خصوصاً إذا استطاع أن يحقق نتائج إيجابية في الانتخابات القادمة، بدلاً من النتائج الهزيلة التي مني بها حزب العمل في انتخابات 9 إبريل/ نيسان الماضي (6 مقاعد بدلاً من 24 مقعداً).باراك أخذ يستعيد بعضاً من جماهيريته، وتحول مؤخراً إلى أهم شخصية معارضة، ويمكن أن تشكل عودته التحدي الأكبر لنتنياهو، إذا استطاع أن يستعيد حزب العمل كقوة سياسية لها اعتبارها، وأن يسترجع تاريخ هذا الحزب كمؤسس لدويلة الاحتلال في فلسطين، ثم، وهذا هو الأهم، أن ينجح في تشكيل تحالف انتخابي مضاد لتحالف الليكود يجمع اليسار (حزب العمل وحزب ميرتس)، مع يسار الوسط «حزب أبيض - أزرق» (حزب الجنرالات) خصوصاً، وأن بيني جانتس زعيم هذا الحزب، عمل تحت قيادة باراك عندما كان الأخير وزيراً للحرب (الأمن)، وكان جانتس رئيساً للأركان عام 2012.تدعم هذا التوجه تطورات أخرى، أبرزها أولاً، تنامي اتجاه الرفض داخل القيادة العسكرية للجيش «الإسرائيلي» للحكومة بقيادة نتنياهو بسبب قيام الحكومة بتقليص الموازنة العسكرية، وتخفيض مدة الخدمة الإلزامية في الجيش، وتقليص ميزانية التدريبات. أما التطور الثاني فهو جدية المستشار القضائي للحكومة أبيحاي مندلبليت، في إجراء التحقيق القضائي مع نتنياهو في الاتهامات الموجهة إليه في موعدها المقرر سلفاً، أوائل أكتوبر/ تشرين الأول المقبل، أي بعد أسبوعين فقط من إجراء الانتخابات العامة، وهي ورقة قوية سوف يستخدمها المنافسون لتشويهه سياسياً، وإظهاره أنه «شخص غير جدير بالثقة». أما التطور الثالث، فهو اتجاه نتنياهو إلى تخصيص مناصب وزارية أكثر من السابق لنواب من الأحزاب الدينية، خاصة حزب «اتحاد أحزاب اليمين» التوراتي المتطرف، وهو حزب يقيم أعضاؤه في المستوطنات، وهم دعاة استيطان وطرد للفلسطينيين، ويشترط رئيسه بتسائيل سموترتيش، تولي حزبه حقيبتي التربية والقضاء «لتغيير المفاهيم القانونية والتربوية بما ينسجم مع التوراة»، كما يسعى إلى فرض «الشريعة اليهودية والحكم التوراتي»، ما يعد استفزازاً سياسياً لعلمانية الدولة، الأمر الذي من شأنه أن يحول المعركة الانتخابية القادمة إلى معركة حول هوية الدولة نفسها. mohamed.alsaid.idries@gmail.com
مشاركة :