حينما جاءني ديوان الشاعر السعودي أحمد قران الزهراني، بغلافه الأسود، وقد عنون له «بياض»، وقفت حائراً ومتأملاً وسائلاً: ترى لماذا اختار الشاعر الغلاف الأسود وفي الوقت نفسه أطلق على ديوانه «بياض»؟ لا شك بأنها سيميائيات تجذب الغواص الأدبي لكشف أسرارها، ومعرفة كنه ما تصبو إليه. بدءاً من الإهداء (إلى... التي تساورني ذات اليمين وذات الشمال) اقتبسها من سورة الكهف آية 18 «ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال»، ولعل الشاعر السعودي عندما يقول في إهدائه هذا الديوان لأهل بيته، أراد معنى الاحتواء الشامل والكامل في الحياة الزوجية، وإنه يستلهم من المرأة المؤازرة لزوجها. حياة هادئة تترك له العنان لأن يسبح في فضاء مفتوح مليء بجماليات اللغة وسحر البيان. شاعرية مؤججة، وعاطفة ملتهبة، لقد مرغتنا الأيام، وطحنتنا الرّحَا، اعتلج الهم في أفئدتنا، وحسرتنا على ما فرطنا تغتالنا يوميا كمدا وقهرا؛ كل ذلك ظهر في قصيدته (حداد)... أمنيات شتى جسّدها الشاعر! فهل تتحقق؟ أصبحنا نحاكي الماضي ونتغنى به، ولكن هل الماضي يعود؟ خيبة الأمل واضحة لدى الشاعر ونظرة التشاؤم تسيطر عليه نرى ذلك في قصيدة «قيظ» حيث يقول: (لقد عزني في الخطابِ... له مهجتان وسبعٌ وتسعوووون... لي واحدةْ... له مطلعُ الشمسِ من غربها... ولي لفحُها... والهجير... لِيَ النارُ في صورة خامدةْ). مقتبسة من سورة ص آية 23 «إن هذا أخي له تسع وتسعون نعجة ولي نعجة واحدة فقال أكفلنيها وعزني في الخطاب». ترى لمن يختصم الشاعر هنا؟ ولمن يبث همومه وشكواه؟ إن كان الشاعر ومنذ العصر الجاهلي هو لسان قومه، وهو المدافع عن حماهم، والمنافح عن رباهم بكلماته المصقولة كالسيف المهند، وجمله النافذة كالقناة المجوفة، فهل معنى هذا أن يختصم الشاعر السعودي من شاعريته، تلك الملكة التي وهبها الله له، هل يراها الشاعر السعودي نعمة أم نقمة؟ لعل شاعرنا أراد أن يقول إنني وغيري من شعراء أبناء جلدي العروبي المعنيون في الخطاب، المعنيون في الدفاع عن هذه الأمة، ولكن كيف لنا ذلك وبيننا وبينهم فجوة رقمية كبيرة من العسير اللحاق بها، وهناك بون شاسع يصعب تقصير مسافته، وهناك هوة عميقة استحالة ردمها والحال هذه. إنها الموضوعية التي يطرحها الشاعر السعودي، نعم: كيف لمثل هؤلاء الشعراء المبرّزين أن ينفخوا من روح الحياة في جثة هامدة لا حول لها ولا قوة إلا بالله العظيم من جسد لا يسعى إلى التطبب، ولا يريد الشفاء. لقد استطاع الشاعر السعودي أن يحقق الأسلوب التعجيزي دونما استخدام أدواته وأغراضه، وهي مهارة بلاغية في علم المعاني حسب ظني تحسب للشاعر السعودي. والسؤال هنا كيف للشاعر السعودي الزهراني أن يوظف كل ذلك في شعره؟ إنه حمل كبير جداً، نشفق عليه منه، ولكن الشاعر السعودي يثبت بأنه قادر على توظيف ذلك، وبأن لديه أدواته الخاصة وملكاته كشاعر مقتدر يتمتع بحس مرهف وعاطفة جياشة ونظرة إلى نتيجة حتمية كان يصبو إليها، أتحسسها - ظنا - من خلال قراءتي لديوانه. إن شاعرية الشاعر لا تقتصر على ما يتمتع به من إحساسات مرهفة، أو عاطفة جياشة متدفقة، أو قدر من التحنان، أو عوالج نفس تواقة إلى الإصلاح، بل الأكثر من ذلك إذا ما صقلت بثقافة عالية وواسعة كثقافة الزهراني، التي لم تقتصر على المعلومات وتنوعها أو تعددها بل على شراهة في القراءة والمطالعة؛ فمن يرى ألفاظه الجميلة الرنانة، وانسياب جمله الأنيقة المستوفاة لقواعدها، يعلم جد العلم بأنه يعبُّ الكتب عبـّاً؛ فقد تبحر في جماليات اللغة العربية ذات التراكيب النادرة، وأخذ يغرف منها كما يغرف جرير من بحر اللغة. * كاتب وباحث لغوي كويتي fahd61rashed@hotmail.com
مشاركة :