يعدُّ الشاعر أحمد محمود مبارك واحدًا من الأصوات الشعرية المتميزة في سجل الشعر الإسكندري خاصة، وفي سجل الشعر العربي عامةً، لما تتسم به تجربته الشعرية بسمات عدة أهمها: الصدق الإنساني، والإنتماء القومي، والحس الديني الواعي، وقد انصهرت كلها في وعاء شعري تنوعت أشكاله بين الشكل العمودي المقفى، والشكل التفعيلي، من خلال لغة عربية واضحة سليمة سديدة. ولقارئ شعره متعة الوقوف أمام الثراء المعرفي والاستدعاء التراثي في القصيدة بجانب الحاجة إلى إعادة التأمل في المعنى والمبنى لاكتشاف الجديد في القراءة تلو القراءة. ولد أحمد محمود مبارك في الحادي عشر من شهر مارس عام 1947 بمحافظة البحيرة، حيث تقيم عائلة والدته التي تنتمي إلى أصل تركي، وانتقل بعد شهرين من ميلاده إلى حيث تقيم الأسرة ويعمل والده بمدينة الإسكندرية، ولكنه من أصول صعيدية ينتمي إلى عائلة من محافظة سوهاج انتقل بعض أفرادها إلى الإسكندرية. تلقى أحمد محمود مبارك تعليمه في جميع مراحله الإبتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي بمدينة الإسكندرية، وتخرج في كلية الحقوق بها عام 1971 وعمل مفتشا للتحقيقات وباحثا قانونيا بالقطاع الحكومي والحكم المحلي بالإسكندرية، وظل في عمله بهذا القطاع حتى إحالته للمعاش في الحادي عشر من مارس عام 2007، وكانت آخر وظيفة تولاها قبل الإحالة للمعاش، هي مدير "عام الشئون القانونية بمديرية الإسكان والمرافق بمحافظة الإسكندرية". بدأ أحمد محمود مبارك الكتابة الأدبية شعرا وقصة قصيرة في سن مبكرة، منذ بداية مرحلة الدراسة الثانوية، ونشر بعض إنتاجه في هذه السن قبل أن يشارك في المنتديات الثقافية والأمسيات الأدبية والمهرجانات الشعرية، وبها تعرف على شعراء الإسكندرية الكبار ومنهم: أحمد السمرة، عبدالعليم القباني، عبدالمنعم الأنصاري، محمود العتريس، محمد برهام، وجايل عددا من الشعراء المبدعين ومنهم: أحمد فضل شبلول، فوزي خضر، عبدالمنعم سالم، فهمي إبراهيم، محمد رفيق خليل، صبري أبوعلم، ناجي عبداللطيف وغيرهم. ولقد كان لمبارك دور فعّال ومؤثر في تاريخ الحركة الشعرية في الإسكندرية، فقد شارك في التحكيم في كثير من المسابقات الأدبية والثقافية، وأيضا اختيار الكتب المرشحة للنشر، وانتخب رئيسا لنادي الأدب المركزي بالإسكندرية لدورة 2010 / 2011، واختير – من قبل – عضوا بالمجلس الاستشاري لإقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي خلال عامي 2009/ 2010. ويتميز دور أحمد مبارك الملموس كعضو عامل في رابطة الأدب الإسلامي العالمية، وباتحاد كتاب مصر، فقد مثلهما في مشاركات شعرية دولية خارج القطر المصري، كما انتخب عضوا بمجلس إدارة هيئة الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية لثلاث دورات متتالية بدءا من عام 1984 وآثر ألا يرشح نفسه بعد ذلك تاركا الفرص لزملاء آخرين. وقد حصل مبارك على العديد من الجوائز الأدبية داخل مصر وخارجها، ومنها: جائزة الرافعي في الشعر من مديرية الشباب والرياضة بمحافظة الغربية بمصر عام 1983، والجائزة الأولى في القصة القصيرة من المجلس الأعلى للثقافة عام 1983، والجائزة الثانية في الشعر من المجلس الأعلى للثقافة، ومسابقة الشعراء الشباب عام 1984، والجائزة الأولى في الشعر من نادي القصيم الأدبي بالمملكة العربية السعودية عام 1410 هـ. والجائزة الثانية في الشعر من نادي أبها الأدبي بالسعودية عام 1410 هـ والجائزة الثانية في الشعر من نادي تراث الإمارات بأبوظبي عام 2000. وفاز بجائزة بحوث الأقاليم الثقافية من هيئة قصور الثقافة بمصر عن بحث بعنوان "الاتجاه الإسلامي لدى عدد من شعراء إقليم غرب ووسط الدلتا الثقافي ووسطه "عام 2005. وقد كتب عن إبداعه الشعري والأدبي عدد كبير من النقاد والباحثين والشعراء منهم: د. محمد مصطفى هدارة، ود. محمد زكريا عناني، وأحمد فضل شبلول ود. السعيد الورقي والشاعر الكبير فاروق شوشة، والشاعر الكبير عبدالعليم القباني، ود. مصطفى عبدالشافي وغيرهم. وقد تنوع إنتاجه الأدبي والفكري ما بين الشعر والبحث الأدبي والقصة القصيرة والكتابة للأطفال، فقد صدر له في الشعر الدواوين: في انتظار الشمس (الهيئة المصرية العامة للكتاب 1991). تداعيات (المجلس الأعلى للثقافة 1991). ومضة في جبين الجواد (دار الوفاء بالإسكندرية بمؤازرة من مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين 1997). أوراق قديمة وأوراق جديدة (دار الوفاء 1998). في ظلال الرضا (رابطة الأدب الإسلامي العالمية 1998). نبضات وألوان (المجلس الأعلى للثقافة 2000). تنويعات على أوتار أصيلة (دار الوفاء 2000). مهر الفجر المأمول (الهيئة المصرية العامة للكتاب 2005). حديث جديد للنابغة الذبياني (اتحاد كتاب مصر فرع الإسكندرية 2010). ثم صدرت له الأعمال الشعرية الكاملة عن الهيئة العامة لقصور الثقافية (في جزئين 2015 يتصدرها مقال الشاعر فاروق شوشة الذي نشره في جريدة الأهرام (2 فبراير/ِشباط 2002). وفي مجال البحوث والدراسات الأدبية صدر له: نظرات في شعر غازي القصيبي (بمشاركة الشاعر أحمد فضل شبلول) عن دار الوفاء للنشر بالإسكندرية 1998. ومضات إسلامية في الشعر العربي المعاصر 1999. رؤية إسلامية في الأدب والثقافة 1999. ويطيب لنا أن نقدم من قصائده الشعرية نماذج تؤكد ما قدمناه من سمات فنية متفردة في تجربته، فيتجلى صدقه الإنساني في قصيدته الشهيرة التي ترجمت إلى أكثر من لغة "كانت أمي أميّة" ومنها: "كانت أمي أميّة لا تقرأ غير عيوني والمسطور على صفحات جبيني" إلى قوله: "واليوم صاحبتي جابت كل القارات تزهو بثلاث لغات تملك تحت الشَّعر المصبوغ بلون النار العاشق دوما للهيب السشوار مكتبةً تحوي كل فروع العلم وكثيرا ما يجمعنا كرسيٌّ واحد ودثار واحد نجمٌ لا يسهر تحت ضياه سوانا لكن صاحبتي لو ضمّت كفي لو جالت في صفحات جبيني لو فحصت بالمنظار عيوني لا تعرف ما يسعدني لا تعرف ما يشقيني أحيانا تسألني عما أخفي فأبوح أتذكر أني ما كنت أبوح لأمي لكني اليوم أبوح فيرتج الشَّعر الناري وتتركني وتروح لتبحثَ في أبواب معاجمها ثم تعود تمطُّ الشفة تهز الوجه تضيّق في الأحداق تمور بعينيها أشباح الأخفاق تشيح بعيدا عني تنعتني بالرمز الغارق في أعماق اللامعقول فأقول: كانت أمي أميّة". ونتأمل مضمون القصيدة الإنساني الذي يضعنا أمام صورتين: صورة الأم الأمية التي تقرأ ما كان يفكر فيه الشاعر، وصورة الزوج (شريكة الحياة المعاصرة المتعلمة) والتي لا تصل إلى ما يريد أو يفكر، فالبون واسع والمقارنة ظالمة، وهكذا تمضي بنا السنون إلى حياة غير واضحة العلاقات، وغير هادئة الخطى. ويأخذنا مبارك ليؤكد على انتمائه القومي في قصائد كثيرة ومنها "عملة كذابة" وفيها يهاجم المهرولين والمطبعين في وقت يبطش فيه العدو الغاصب الصهيوني بشعب فلسطين الأعزل، ويدنس المسجد الأقصى بالنعال الصهيونية، ومن أبياتها: في زمان مسربلٍ بالكآبة ** أي لحن به تغني الربابةْ أي لحن وكل نجم تبدّى ** في سمانا طغت عليه سحابة أيها البائعون سيف الصلابة ** بوعودٍ وعملةٍ كذابة صرخة الأقصى في السماء رعودٌ ** منذ داست كلابهم محرابهْ وأنين القدس الجريج دعاءٌ ** ويلكم منه حين تأتي الإجابةْ ولأحمد محمود مبارك قصائده التي تعمِّق من الروح الصوفية والتعاليم الإسلامية والقيم التربوية السمحة في سلاسة تعبير وصفاء ضمير ومنها "نفحات من ذكرى مولد المصطفى" وفيها يقول مخاطبا مكة المكرمة في زيارته لها: "أرجعينا حيث نور الرشد يهدي الأنفس الحيرى لدرب الحق أرجعينا فيلقا يقوى، ولا ينشق تحت رايات (محمد) أرجعينا شعلةً للعزم مهما زمجرت ريح الطواغيت ضياها ليس يخمد". وقد ودعته الإسكندرية عصر يوم الأربعاء الثاني عشر من يونيو/حزيران 2019 إلى مثواه الأخير بمقابر عامود السواري بحي كرموز. رحل بجسده تاركا لنا ثروة شعرية وأدبية ستخلد اسمه على الدوام.
مشاركة :