في الثالث والعشرين من الشهر الجاري، سيتوجه زهاء 10 ملايين ناخب في اسطنبول إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رئيس بلدية مرة أخرى. ووفقاً لما جاء في تقرير الكاتب يافوز بايدار بصحيفة "أحوال" التركية، فإن إعادة التصويت نقطة مهمة وحاسمة سوف يتحدد على ضوئها مستقبل تركيا ككل وليس اسطنبول فحسب. كما ستظل بعد هذا الموعد علامات استفهام ضخمة بلا إجابات. ما من شك في أن أكرم إمام أوغلو، عمدة اسطنبول، البالغ من العمر 49 عامًا، هو المرشح والمنافس الأقوى ليس فقط ضد بن علي يلدرم، رئيس الوزراء السابق من حزب العدالة والتنمية الحاكم، بل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تراكمت السلطات والصلاحيات في قبضته على مر السنين. ومن المرجح أن يكون إمام أوغلو هو الحاجز الأخير الذي يحول بين أردوغان ونظام الحكم المطلق، الذي عمل الأخير بكل الجدية على بنائه. العمدة الشرعي ولا شك في أن إمام أوغلو يعتبر العمدة "الحقيقي" للمدينة، حيث إنه فاز في الانتخابات التي جرت في 31 مارس/آذار بفارق نحو 14000 صوت، لكن تم انتزاع انتصاره بعد سلسلة من الألاعيب والحيل المذهلة، التي أدت إلى إلغاء التصويت من قبل المجلس الأعلى للانتخابات الذي يتعرض للضغوط بضراوة بالغة. وأثبت إمام أوغلو جدارته بالفوز، كما تأكد أنه مقاتل، حيث تجاوز أراضيه المحددة وقدم نفسه كمنقذ لتركيا من الخراب والقسوة، وكزعيم وطني قادم عازم على توحيد مختلف الشرائح الاجتماعية التي قسمها أردوغان ثم تلاعب بها لتواجه بعضها البعض. وكتب إمام أوغلو مقالا نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية بعنوان: "هكذا فزت بانتخابات منصب عمدة اسطنبول وهكذا سأفوز مجددا": رابط المقال على العربية.نت http://ara.tv/nfus4. ذكاء وثقة بالنفس يمتلك إمام أوغلو أسباب للثقة بالنفس، ومنها الذكاء، الذي قام بتوظيفه خلال عطلة عيد الفطر، في مناسبة زيارته العائلية لساحل البحر الأسود، موطنه الأصلي، حيث قام بتنظيم جولات انتخابية حاشدة في معالم سياحية رائعة. وتجمع عشرات الآلاف من المؤيدين في ميادين المعاقل التقليدية لأردوغان، في إشارة إلى تغيرات تشبه إلى حد ما ظاهرة المد والجزر. ومن الواضح أن إمام أوغلو، الذي يتحدث بلطف وتعاطف سياسي شديدين، في حالة زخم للأخذ بزمام المبادرة، بينما تمر تركيا بأزمة عميقة نتيجة لموجات من التشنّجات المتواصلة. وطرحت تلك الخطوة تساؤلا لدى بعض المراقبين الحذرين، (بالإضافة إلى كاتب المقال نفسه يافوز بايدار)، عما إذا كان حمل الشعلة الانتخابية خارج حدود المدينة والسباق الانتخابي المحدود، يعد علامة على الثقة الزائدة. ويمكن تفسير الخطوة على أنها مواجهة لشعبوية أردوغان المعروفة والمتفوقة بنفس الأسلوب من جانب، وتعاطيا مع الواقع القاسي لتركيا اليوم من جانب آخر. تهديد وجودي لأردوغان وبالنسبة لأردوغان وأتباعه، فإن تواجد إمام أوغلو على الساحة السياسية وظهوره خارج اسطنبول، يمكن أن يكون بمثابة رسالة تقول: "إن إمام أوغلو لا يريد أن يحكم اسطنبول فقط بل تركيا بأكملها"، فيما يعد تهديدا وجوديا للرئيس ولحزبه الحاكم. ولا يزال ما تعرض له صلاح الدين دميرطاش، زعيم حزب الشعب الديمقراطي، المسجون حاليا، والذي يعد حاسما ومتعاطفا مثله مثل إمام أوغلو، ماثلا وحاضرا في ذاكرة الجماهير ويظهر إلى أي مدى يمكن أن يصبح أردوغان عديم الشفقة بلا هوادة عندما يستشعر تحديا خطيرا لعرشه. ولذلك، يجب أن يدرك إمام أوغلو، الذي يتفق شعاره: "دعونا نتغلب على الانقسامات في المجتمع" في نواح كثيرة وشعار الرئيس التركي الراحل توركوت أوزال، أنه دخل حقل ألغام وربما لا ينجو منه مرة أخرى. وبالنظر إلى حالة الإنهاك، التي يعاني منها النظام العام في تركيا، حيث انهار حكم القانون عملياً ويئن الاقتصاد من حالة الركود، ربما تعكس الحشود المناهضة لحزب العدالة والتنمية ردود أفعال قديمة، ولكن ربما يكون حماسها وهميا أيضا. وكذلك الحال بالنسبة لاستطلاعات الرأي العام، والتي تعد جديرة بالثقة، فإنها تظهر مرة أخرى تنافسا انتخابيا ضئيلا للغاية يقدر بنقطتين مئويتين. الغضب والإنصاف هل سيفوز إمام أوغلو مرة أخرى؟ الإجابة هي إذا كان الغضب العام علامة، فسينتصر إمام أوغلو. أما إذا كان الإنصاف هو المعيار، فهو يستحق أن يتم الاعتراف به والسماح له بتولي منصبه، لكن تتجمع عند هذه النقطة، على وجه التحديد، الكثير من الغيوم حول الاحتمالات ويتعلق الكثير بما تحمله جعبة أردوغان هذه المرة. إن إحدى النظريات البسيطة كما يمكن للمرء أن يفكر فيها هي أن رصيد أردوغان من الذخيرة السياسية قد نفد، حيث لم يعد لديه جديد يقوله لحشود الجماهير، وأصبح الكثير من كلماته مجرد أكاذيب، يصدح صداها في فراغ مطلق بلا تأثير فعلي. لذلك، ومن المحتمل أنه لن يفعل أي شيء غير عادي للفوز في إعادة التصويت ولكن ربما يوجه ضربته في وقت لاحق. سلطات استبدادية يتمتع الرئيس التركي بسلطات كافية لتحديد مصير البلديات، ولديه خطط تشريعية أخرى لتعميق صلاحيات السلطة المركزية على المجالس المحلية، كما أنه يسيطر على السلطة القضائية بأكملها، وما يسمى بمؤسسات الدولة المستقلة، مثل المجلس الأعلى للانتخابات. ويدرك أردوغان جيدا أن صعود إمام أوغلو يشبه إلى حد كبير ما حدث معه هو نفسه منذ سنوات، وأن الفائز في انتخابات اسطنبول هذه المرة، كما سبق أن فعل إمام أوغلو في 31 مارس، يمكنه المنافسة على منصب الرئيس في أول انتخابات رئاسية قادمة. ويدرك أردوغان، والدوائر المحيطة به أن إمام أوغلو لن يتردد في الكشف علنا عن كل ممارسات الفساد القذرة والمحسوبية في المناقصات العامة، التي ارتكبها حزب العدالة والتنمية في اسطنبول على مدار 25 عاما. وتمثل كل هذه المعطيات تهديدا وجوديا خطيرا للغاية لأردوغان ودائرته الضيقة. بدأ السباق الانتخابي الحقيقي هذه الأيام، وحتى الآن، يتحمل إمام أوغلو الاتهامات المتعلقة بالتشكيك في هويته، والتي تزعم بأنه "يوناني" الأصل من بونتوس، وهو الاسم القديم لمنطقة البحر الأسود الشرقية، حيث كانت تقطن غالبية مسيحية كبيرة قبل حدوث عملية تطهير عرقي ضخمة في الفترة من عام 1914 إلى 1923. ولكن، يتوقع المتشائمون أنه إذا كان أردوغان مصمماً بشدة على عدم التنازل عن اسطنبول، فإنه من المرجح أن تشهد الفترة المقبلة، السابقة على موعد إعادة التصويت، القيام بالكثير من الممارسات البشعة. ويُحتمل أن يكون المتشائمون على صواب، ولكن يبقى أن يوم 23 يونيو/حزيران سيكون موعدًا لإظهار ما إذا كان أردوغان وأعوانه يحترمون نتيجة الانتخابات، إذا تعرضوا للخسارة مرة أخرى، وهو ما سيحدد بالتبعية مصير تركيا.
مشاركة :