الشارقة: علاء الدين محمود يقوم أمر الصوفي على الصدق في كل شيء، وقد صدقت سيرة عبد القادر الجيلاني وأفعاله وأقواله حتى التقطها الشعراء فصاغوها شعراً، وتلقفها المغنون فرددوا من الألحان شجياً لا يشبهه في صفائه إلا حديث وشعر العالم الأجل «سلطان العلماء» و«تاج العارفين» و«محيي الدين» و«قطب بغداد» عبد القادر الجيلاني، ولقد صفت أقواله وأشعاره، لأن روحه قد بلغت من الصفاء حد أن فارقت فيه كل ما يعكر، وكل ما يباعد بينه وما ارتقى إليه من مقام رفيع بديع، فهو يقول في رائعة من مقولاته التي تتناقلها الألسن حتى الآن: «أنت كدرٌ وهو صفا، أنت قساوةٌ وهو رحمة، ما دمت مع الخلق فأنت مع النفس، وما دمت مع النفس فبينك وبين ربك حجبٌ وستورٌ ومسافات»، وذلك هو المرتقى الذي ساقه إليه طريق السالكين من المتصوفة الزهاد، الذين اختاروا الهجرة إلى الله، سبحانه وتعالى، حباً ووجداً، فوجدوا الأنوار الساطعات، والمعارف التامات، فزهدوا عما في الدنيا من متاع يرجون ما عند ربهم. عبد القادر الجيلاني «470 ه -561 ه»، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، يعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضاً ب«سلطان الأولياء»، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي، لقبه أتباعه ب«باز الله الأشهب»، وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية، وقد نشأ عبد القادر في أسرة وصفتها المصادر بالصالحة، فقد كان والده أبو صالح موسى معروفاً بالزهد وكان شعاره، مجاهدة النفس وتزكيتها بالأعمال الصالحة، ولذا كان لقبه «محب الجهاد»، أما والدته فكانت معروفة بالخير والصلاح، وكان من ألقابها «سيدة النساء»، وهي بنت الشيخ عبد الله الصومعي، وكان لوالدته تأثير كبير فيه من حيث التربية والتهيئة، فهي التي علمته فضيلة الصدق، وألا يضطر للكذب تحت أي ظرف من الظروف، فالصدق هو الذي ينجي الإنسان من المهالك، ويقربه من الله تعالى. وكان الشعر والنظم إحدى وسائل الجيلاني في التقرب إلى الله تعالى، فصاغ منه ما جعل البناء التقليدي للشعر يئن تحت وطأة الإبانة الناصعة، فاللغة عنده تسيل لتنتج صوراً، وتظهر المعاني بين الحواشي والمتون فيوضاً وأنواراً تتوارى خلف حلاوة الكلمات وقوة الرمز، وتأبى أن تنفتح المعاني إلا بضياء يتسلل إلى قلب المتلقي المريد صاحب التجربة في الحب فيمتلئ قلبه بنضارة الشعر والوجد، فالنص الشعري عند الجيلاني هو حالة مكتملة من الحب والعشق، يكاد يفتت أقوى القلوب وأكثرها غلظة بنحيب شجي خفي، تسوقه اللحظة الشعرية والفيض النوراني فيتنزل على سامعه، وكأنه يهبط من عالم آخر، فهي تحمل جديدًا لم تألفه النفس، وقد فارق بأساليب شعره تلك الأغراض القديمة من رثاء وحب ومدح وعتاب، أو ربما جمعها كلها في وصفة شعرية يناجي بها الجيلاني ربه صباح مساء، ومن ذلك البيان الفصيح، والنظم المريح قوله: مَا فِي الصَبابَةِ مَنْهَلٌ مُسْتعْذَبُ لاّ وَلِي فِيهِ اْلأَلَذُ الأَطْيَبُ أَوْ فِي الْوِصَالِ مَكَانَهُ مَخْصوْصَةٌ إلاَّ وَمَنْزلَتي أَعَزُّ وَأَقْرَبُ وَهَبَتْ لِيَ الأَيّامُ رَوْنَقَ صَفْوِهَا فَحَلَتْ مَنَاهِلْهَا وَطَابَ الْمَشْرَبُ. إنها دفقات شعورية تحيي القلوب، وسواطع نورانية تقرب إلى المحبوب، وتاج مرصعة بجواهر ونفائس البديع وحلاوة المجاز وإشراقات البلاغة، تلك هي أشعار الجيلاني التي وجد فيها الناس طيب العبارة، وصدق النفس التي ذهب بها الشوق كل مذهب، فكان قدر الجيلاني عند المتصوفة إن قال شعراً، أصبح عالمهم منشداً مردداً لذلك الشدو الطروب، فكان عند الناس صادقاً صدوقاً، وما يروى عن صدقه حكاية تناقلتها أجيال من المتصوفة، تلك التي يرويها هو فيقول: «سرت مع قافلة صغيرة بطلب بغداد، فلما تجاوزنا همدان، وكنا بأرض فلاة، خرج علينا ستون فارساً فأخذوا القافلة، ولم يتعرض لي أحد فاجتاز بي أحدهم وقال يا فقير ما معك؟ فقلت: أربعون ديناراً، فقال: وأين هي؟ فقلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي، فظن أني استهزئ به فتركني وانصرف ومر بي آخر فقال مثل ما قال الأول وأجبته كجواب الأول فتركني، وتوافيا عند مقدمهم وأخبراه بما سمعاه مني فقال علي به، فأتي بي إليه وإذا هم على تل يقتسمون أموال القافلة فقال لي ما معك؟ فقلت: أربعين دينارا قال أين هي؟ قلت: مخاطة في دلقي تحت إبطي فأمر بدلقي ففتق فوجد فيه أربعين دينارا فقال ما حملك على هذا الاعتراف؟ قلت: إن أمي عاهدتني على الصدق وأنا لا أخون عهدها، فبكى وقال أنت لم تخن عهد أمك وإني إلى يوم كذا وكذا سنة أخون عهد ربي، فتاب على يدي، فقال له أصحابه أنت مقدمنا في قطع الطريق وأنت الآن مقدمنا في التوبة فتابوا كلهم على يدي وردوا على القافلة ما أخذوه منهم، فهم أول من تاب على يدي». هذب الجيلاني نفسه وهيأها لتقبل المدد والسير في طريق السالكين فكان من الزاهدين، ترك وراءه مغريات الحياة، وتوجه نحو ربه صابراً على الشدائد، قادراً عليها بفضل من الله تعالى، وتفتقت عن لحظة اتجاهه نحو الزهد ومدابرة متع الدنيا، أقوالاً لا تقل في جمال شاعريتها، ورقة دعوتها، وبليغ كلماتها، وقوة معانيها عن أشعاره، وهي الأقوال التي مازال يستدل بها الصوفي في الزهد والورع ومعرفة خبابا النفس الإنسانية، ومنها قوله: «إن أردت أن يرضى الله عنك فعليك بإسخاط نفسك، ومنعها عن شهواتها ولذاتها وفضولها».
مشاركة :