من يتذكر الشاعر جان سيناك، ابن قرية بني صاف البحرية بالغرب الجزائري؟ ماذا كان سيقول جان سيناك لو عاد إلى الجزائر اليوم، ووقف على شعبها وهو يقوم بصياغة جديدة لتاريخه في الشوارع وفي الساحات العامة، وهو يحرر تاريخه وواقعه اليومي الاجتماعي من البهتان السياسي ومن الدجل الثقافي؟ نعم، يحتاج الحراك الجزائري إلى مثقف من طينة جان سيناك، جان سيناك آخر، جان سيناك هذا العصر بإيقاعه وبهواجسه وبأحلامه وبتحديات، مثقف التغيير، التغيير الذي يبدأ من الذات ليصل إلى الجماعة التي تشترك في صناعة التاريخ بكل أهواله. من يتذكر الشاعر المجاهد جان سيناك؟ الأمة التي لا تتذكر شعراءها تعيش غريبة على وليمة التاريخ، تمشي عكس تيار التاريخ الإيجابي، الشعراء أنبياء التاريخ، صوت الروح فيه، والأمة التي تنسى شعراءها تنسى مجد تاريخها ولا تستطيع صناعة مستقبلها. الشعراء ليسوا حطب الماضي، وكلامهم ليس تدفئا على رماد نار الماضي، الشعراء أنبياء المستقبل، والشاعر جان سيناك كان نبي الثورة الجزائرية، كان أسطورة العصيان. اعترف روني شار بشاعرية جان سيناك، ولكن هذا الاعتراف لم يدخله في خانة نخب مقاهي الأرصفة في الجزائر العاصمة أو نخب باريس في الصالونات الدافئة، بل ظل صوت الفلاحين الجزائريين لقد صنع جان سيناك من حياته البسيطة الشعبية البوهيمية المناضلة أسطورة يومية للمجتمع الثقافي والأدبي والإعلامي بالجزائر ما بين 1954 وحتى تاريخ موته الغامض المدبر ليلة 29 و30 من أوت 1973. حتى وإن طوي ملف اغتياله فلم نحن اليوم بحاجة إلى رفع الغطاء عن الحقيقة كي يتجلى وجهه الملائكي، كي تعود أسطورته إلى هذا اليومي المتحرك في الجزائر الجديدة؟ جاء جان سيناك الحياة من أب مجهول ومات موتا مجهولا، الشعراء الكبار جميعهم أبناء المجهول، ليس هناك شاعر كبير يراهن على طمأنينة اليقين، اليقين كذبة، الطمأنينة عند الشاعر المبدع الأخت التوأم للموت، أول ما يقوم به الشاعر في مهماته الأساسية هو قتل أبيه، وقد جاء سيناك الحياة فلم يجد الأب ليقتله، فاستعار اسم أمه، لأن الأم حقيقة لأنها الرحم، الحياة، الخصب، وشرع انطلاقا من “الأمومة” في هدم البنية التي صنعت الأب الكاذب، الاستعمار. بين الميلاد لأب غير شرعي واغتيال في صيف جزائري لزج رطب، استطاع أن يعيش جان سيناك حياته في شكل أسطورة متعددة مفتوحة على الجرأة والصدق واليسار. كيف تحول الشاعر جان سيناك إلى أسطورة يومية؟ هو الأسطورة، لأنه جاء من المجهول، فصنع لنفسه إقامة في الكتب والشعر والنقاش والنضال الثقافي اليومي، منذ أن أسس جمعية “شعراء العتمة” العام 1943.لقد تحول جان سيناك إلى أسطورة يومية لأنه تمكن من فهم معنى كلمة “الشعب”، أعطاها من شعره صيغة. كان الشاعر أسطورة يومية لأنه استطاع أن يكون، وبوضوح، ضد موقف أستاذه الروائي والفيلسوف ألبير كامو، على الرغم مما كان يمثله هذا الأخير من سلطة أدبية كبرى في باريس وفي الجزائر، وهما المتشابهان إلى حد كبير في انتمائهما الاجتماعي، فكلاهما من الطبقة الاجتماعية الأوروبية الفقيرة التي هاجرت إلى الجزائر بحثا عن لقمة عيش، إلا أن سيناك ظل متمترسا في معسكر الشعب وهواء التحرير في حين عجز ألبير كامو عن إعلان حالة الطلاق مع فرنسا الاستعمارية. منذ انطلاق ثورة الجزائر في نوفمبر 1954 وقف جان سيناك حاملا رسالتها في المطالبة بالاستقلال والحرية والمساواة والتعدد دون غموض أو انتهازية ثقافية. وتحول إلى أسطورة يومية لأنه اختار بعد الاستقلال العيش في الجزائر، لم يغادرها كما غادرها الكثيرون. عاش صديقا لوزراء حكومات الاستقلال وخصما لهم في الوقت نفسه، كلما حادوا عن حلم الشعب، لم يطالب بشيء من الاستقلال الذي جاهد لأجله سوى بالحصول على بطاقة التعريف الوطنية الجزائرية. الأمة التي لا تتذكر شعراءها تعيش غريبة على وليمة التاريخ، تمشي عكس تيار التاريخ الإيجابي، الشعراء أنبياء التاريخ، صوت الروح فيه اعترف روني شار بشاعرية جان سيناك، ولكن هذا الاعتراف لم يدخله في خانة نخب مقاهي الأرصفة في الجزائر العاصمة أو نخب باريس في الصالونات الدافئة، بل ظل صوت الفلاحين الجزائريين، صوت ما بين الطفولة والسذاجة والنبوءة والعصيان. في الأيام الأولى لاستقلال الجزائر، وبالضبط في أكتوبر 1963، أسس معية الروائي والمناضل الثقافي الكبير مولود معمري أول اتحاد للكتاب الجزائريين، وقد تولى مولود معمري منصب الرئاسة وتولى جان سيناك منصب الأمين العام، وكان عضوا في لجنة إعادة إعمار المكتبة الجامعية التي أحرقتها المنظمة الإرهابية OAS عشية الاستقلال، وكان صديقا لمحمد ديب ورشيد بوجدرة وجمال عمراني وجمال الدين بن الشيخ وقدور مصاجي ومفدي زكريا ومحمد العيد آل خليفة، وهو أول من أشرف على نشر أنطولوجيا الشعر الجزائري بعد الاستقلال وجمع فيها الأصوات الشعرية التي ستمثل الاستمرارية الإبداعية لجيل الثورة التحريرية. اليوم ينام جان سيناك في مقبرة عين البنيان ضواحي العاصمة، يستفيق صباحا على أشعة الشمس التي كان اتخذها توقيعا له في كل كتاباته وينام على موسيقى أمواج البحر المتوسط الذي ولد على ضفته ذات 26 نوفمبر 1926 بمدينة بني صاف. من يتذكر الشاعر المجاهد جان سيناك الذي أصر على أن يبدأ تعلم اللغة العربية بحفظ كلمات النشيد الوطني الجزائري “قسما”؟
مشاركة :