«سقوط إيكاروس» لبروغل أولى بالإنسان أن ينسّق مع الطبيعة

  • 4/3/2015
  • 00:00
  • 10
  • 0
  • 0
news-picture

منذ زمن بعيد جداً كانت أسطورة إيكاروس تفتن الفنانين والكتاب. الأسطورة تتحدث عن الفتى ايكاروس الذي أعطاه أبوه ديدالوس أجنحة من شمع فحاول أن يطير بها نحو الشمس، لكن الشمع سرعان ما ذاب وسقط الفتى في مياه البحر. لقد داعبت هذه الأسطورة المخيلات طويلاً، وعلى الأقل، بسبب توق الإنسان الدائم إلى تحدي الطبيعة والتحليق في الفضاء. وما لا شك فيه أن الأسطورة هذه كانت ماثلة في ذهن ليوناردو دافنشي حين صمم - على الورق - أول آلة للطيران، وكذلك في ذهني الأخوين الأميركيين رايت حين حققا المعجزة عند المنعطف الزمني بين القرنين التاسع عشر والعشرين، و»اخترعا» الطائرة. غير أن الأسطورة اليونانية القديمة كانت تعني بالفعل أكثر من مجرد الطيران. كانت تحمل بعداً فلسفياً يتعلق بالإنسان وموقعه من الكون ورغبته الدائمة في الخروج من الحال البيولوجية إلى رحاب أكثر اتساعاً. > وفي أواسط القرن السادس عشر، كان الرسام الفلامندي بيتر بروغل، واحداً من أبرز الفنانين النهضويين الذين اهتموا بأسطورة ايكاروس. وجاء اهتمامه وسط مناخ شعبي عام كان استعاد اهتمامه بالمواضيع الكلاسيكية مساعدا على إعادة تفسير العديد من الأساطير اليونانية - وغير اليونانية - القديمة، انطلاقاً من مواقف إنسانية جديدة كان عصر النهضة قد بدأ يفرزها. غير أن هذا، بالنسبة إلى بروغل، لم يكن كل شيء، إذ إن واقعه كان أيضاً أخلاقياً، هو الرواقي الذي كان حريصاً على أن يجعل من المواقف التي تعيشها شخوص لوحاته درساً في الأخلاق. لذلك لم يخف بروغل أبداً أن أسطورة ايكاروس ومأساة سقوطه القاتل، كانا يمثلان بالنسبة إليه تعبيراً عن موقفه المعادي للغرور والكبرياء اللذين يوردان صاحبهما موارد الهلاك إن هو حاول المبالغة فيهما. بالنسبة إلى بروغل كان ايكاروس يستحق مصيره. > ولم يكن الأمر، بالنسبة إلى هذا الفنان، تعبيراً عن موقف رجعي، بل العكس. فهو رسم المشهد كما لم يكن سبق لأي فنان أن رسمه من قبل. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يغمر لوحته بألوان متوسطية دافئة، بينما كان الرسامون السابقون عليه من الذين رسموا الأسطورة نفسها، يستخدمون ألواناً للمشهد شمالية باردة. صحيح أن بروغل أضفى على مشهده طابعاً شعبياً واحتفالياً - على غرار سابقيه - حيث جعل الشاطئ يعمر بأناس يعيشون حياتهم اليومية، والبحر حافلاً بالسفن والحركة، وصحيح أنه صغّر حجم شخصيته الرئيسية بحيث أنه لم يعبر عنه إلا بساقيه الطالعتين من قلب ماء البحر بعد سقوطه، لكنه - أي الرسام - عرف كيف يضع هنا كل شيء. ولكن أيضا فلسفته الرواقية التي تنادي بالتلاؤم مع الطبيعة، والاستنكاف عن الثورة عليها. وبالنسبة إلى بروغل من المؤكد أن إيكاروس، في محاولته الطيران على ذلك النحو «الأحمق»، إنما رغب في أن يتمرد على الطبيعة وقوانينها. إذا، فليمت ومن الأفضل إلا يبالي أحد بموته. > بالنسبة إلى التفسير الرواقي للعلاقة بين الإنسان والطبيعة، كان بروغل يرى مع الرواقيين أن «الإنسان بالتأكيد صغير جداً إذا فكرنا بخلود العالم وعظمته»، وأن «الحصان خلق ليحمل وينقل، والثور ليخطّ أثلاماً، والكلب ليحرس ويصطاد، أما الإنسان فإنه خلق لكي يعانق العالم كله بنظرته». ومعانقة العالم في هذا المجال هي التناسق معه في موسيقى أبدية، لا التمرد عليه. فالرواقيون كانوا يرون أن الكون إنما هو بنيان نظم بشكل جميل وحكيم، كل كائن حي يشغل فيه مكانة ومكاناً محددين، لذلك على الإنسان أن يخضع لهذا المبدأ وأن يرضى بقدره. وكان بروغل بالطبع يشاطر الرواقيين هذه النظرة، وهو أمر يمكن لدراسة عميقة لبعض أهم أعمال بروغل أن تكشفها لنا. وفي هذا الإطار قد يكون مفيداً أن ننقل عن اورتليوس معاصر بروغل ما قاله يوماً عن صديقه الفنان: «لقد رسم أشياء ما كان يمكن رسمها. وفي رسوم بروغل كلها هناك دائماً أشياء ناتجة من التفكير أكثر مما هي ناتجة من الرسم». > وهذا المنطق يسري بالتأكيد على لوحة «سقوط ايكاروس». وبروغل يقول هنا إن على الإنسان أن يعيش في التناسق مع الطبيعة مثله في هذا مثل بقية الكائنات. وهذا المبدأ يمكننا أن نلمحه في العديد من اللوحات التي حققها بروغل خلال المرحلة نفسها التي رسم فيها «سقوط ايكاروس»، مثل «عودة القطيع»، وخصوصاً لوحة «انتحار الملك شاوول». فهذا الأخير أذنب من حيث أصيب بالغرور وتحدى آلهة العهد القديم، بمعنى أنه خرق قوانين الكون بحسب نظرة الرواقيين. لذلك فإن موته أمر حتمي. وايكاروس فعل الشيء نفسه. > قبل بروغل كان ايكاروس قد مُجّد دائماً بوصفه باحثاً يرغب في توسيع حدود المعرفة. لكن بروغل انطلاقاً مما أسلفنا نظر إليه نظرة أخرى: لقد حوله إلى «هزأة» حين لم يبق منه، طافياً فوق الماء، إلا ساقيه، وخصوصاً أن بروغل جعل الفلاح العامل مع حصانه كلي الانهماك في عمله غير مهتم على الإطلاق بمصير ايكاروس. ونحن نعرف أن هذا الفلاح والراهب والصياد يبدون في النسخة الأكثر انتشاراً للأسطورة (وهي النسخة التي صاغها الشاعر أوفيد) مهتمين تماماً بمصير ايكاروس إذ سقط، لكن بروغل فعل العكس تماماً: صوّرهم منصرفين إلى حياتهم وأشغالهم. بالنسبة إليهم، ليس ثمة أي مجال للاعتقاد - كما هي الحال لدى اوفيد - بأنهم إنما «يرون الآلهة تقترب من الأثير». والأدهى من هذا كله أن بروغل، وإن كان قد ركز على هذه الشخصيات كما على بقايا ايكاروس الغارق، فإنه لم يجعلهم جميعاً يشغلون سوى جزء يسير من اللوحة. حيث أن الجزء الأوسع يشغله الخليج نفسه والغابات والجبال والمرفأ البعيد والشمس الآيلة إلى الغروب عند الأفق. انه مشهد طبيعي يبدو وكأن لا نهاية له. وكأن بروغل يريد أن يرينا ضآلة الإنسان وشأنه ومصيره أمام عظمة الكون والطبيعة واتساعهما. ولنضف إلى هذا أن بروغل يجعل مُشاهد اللوحة ينظر إليها من أعلى في منظور متجه عميقاً حتى الأفق، وذلك لكي يتمكن من التعبير في شكل أفضل عن امتداد الطبيعة وعظمتها. صحيح أن الانطلاق من وجهة النظر هذه تشي بأن بروغل لم يحترم المنظور كما يجب، لكنه بالتأكيد إنما يلجأ إلى هذه الحيلة التقنية لكي يعزز الإحساس بالابتعاد والانفصال عن المشهد أكثر وأكثر. > ولكن، إذ نفترض هذا كله، أفلا ترانا نرسم لفكر بروغل في تلك المرحلة صورة تتناقض مع الصورة المعهودة لفناني ومفكري عصر النهضة، من حيث تركيزهم على الإنسان ومكانته في الكون في أعمالهم؟ أبداً، لأن النزعة النهضوية كانت تدعو إلى التناسق والتوحّد، ربما، بين الإنسان والطبيعة. أما التمرد على قوانين هذه الأخيرة فأمر غير مرغوب فيه، وليس فقط لدوافع عملية وتقنية، بل أيضاً لدوافع أخلاقية. ومن المؤكد أن هزء بروغل من ايكاروس، كما في اللوحة، يؤكد هذا. > ولد بيتر بروغل، رسام الإنسان والطبيعة بامتياز، ورسام تعاقب الفصول والحياة الشعبية الريفية، في عام لم يستطع أحد تحديده، لكنه، بالتأكيد يتراوح، بين 1525 و1530، وربما في مدينة بريدا. وهو حتى العام 1545 ظل يتعلم الفن في محترف فان آلست في مدينة آنفر. حيث نراه منذ عام 1550 يشارك في أعمال جماعية، وينضم في العام 1551 إلى نقابة الرسامين ما يجعل منه محترفاً معترفاً به. وفي العام التالي يتجول بين ليون وإيطاليا والألب، ويعمل لبعض الوقت في روما. وهو منذ ذلك الحين، وحتى موته في العام 1569 لا يتوقف عن العمل، محققاً لوحات كانت سرعان ما تلقى نجاحاً، ما زاد الإقبال على فنه، وجعله خلال سنواته الأخيرة يحول محترفه إلى مؤسسة عائلية حيث عمل أبناؤه ثم أحفاده معاً، مقلدينه حيناً، مختلفين عنه حيناً آخر، ما جعل لاحقاً عدداً لا بأس به من الرسامين يحمل الاسم نفسه، بحيث أن أعمالاً كثيرة اختلطت دائماً حتى على أفضل النقاد. ومع هذا لم يصل أي من أبنائه أو أبنائهم إلى عبقريته.

مشاركة :