مثل آباء كثيرين من أبناء جيلي فإنني أسمع من عيالي بين الحين والآخر عبارات مؤدّاها أنني «متخلف»، وعاجز عن مواكبة مستجدات العصر الراهن، واعترف بأننا نستأهل ذلك اللقب لأننا نحرص على الحديث عن «أيام زمان» بكثير من الفخر والاعتزاز، بل ونتباهى بأننا لم نكن نعرف الثلج والهواء المكيف، وكنا نتحلق حول أجهزة الراديو بنفس طريقة تحلق الأطفال الرضع اليوم أمام برامج طيور الجنة التلفزيونية؛ أعني أننا نفعل ذلك ولسان حالنا يقول: كنا محرومين من كافة الأدوات الإلكترونية والكهربائية التي نراها اليوم في كل بيت وكل يد، ومع هذا فنحن من عاش وجاهد وربى الجيل الذي يصمنا بالتخلف. ولست أزعم أن طفولتي كانت أجمل من طفولة عيالي وأبناء وبنات جيلهم، ولكنني لا أحسب أنها كانت «أسوأ» منها، ولا أحس بأنني كنت محروما لأن أبي لم يشتر لي بلاي ستيشن أو لابتوب، أو لأنه لم يكن في بلدتنا من أقصاها إلى أقصاها جهاز تليفون أرضي، أو لأن أمي أطعمتني الفول والملوخية عمدا ومع سبق الإصرار وأنا في شهري السادس، بحسب أقوال شهود عيان، واعترافاتها هي نفسها وهي تنصحني بتعويد عيالي وهم رضع على تناول الطعام العادي بدلا من السريلاك والسيميلاك واللبن المجفف. ومثل معظم مواليد الفترة الممتدة منذ فجر التاريخ إلى السبعينيات من القرن الماضي فقد وصلت إلى الدنيا على يد داية/قابلة أمية لم تسمع بالتعقيم ولا بالتتانوس/ الكزاز؛ ولم أخضع للتطعيم ضد شلل الأطفال والتايفود والحصبة، وكانت في بيتنا مزيرة بها أربعة أزيار وكوز واحد نشرب منه نحن وجميع الجيران الذين يزوروننا (ولم يكن يمر يوم من دون ان يدخل بيتنا نحو عشرة من الجيران إما للونسة أو طلب سلفة زيت أو سكر أو ملح أو لاسترداد سلفة حصلنا عليها منهم من تلك المواد)؛ بل كان هناك «سبيل» في كل حي وهو عبارة عن أزيار فخارية في أمكنة مكشوفة ويشرب منها الرائح والغادي، علما بأن الماء الذي كان في تلك الأزيار كان يأتي مباشرة من جداول ري المزارع، وكنا أثناء اللعب وسط الحقول نشرب من تلك الجداول مباشرة ونحن نعلم أن هناك بهائم سبقتنا إليها بل وقد تكون تشرب في ناحية أخرى من نفس الجدول في نفس الوقت الذي كنا ننبطح فيه على بطوننا ونشفط الماء كما البهائم. ولم يؤد ذلك إلى انتشار وباء ما. (كلّما قلت ذلك لابنتي مروة تقول لي: أصلا أنتم كنتم «وباء» فكيف يصيب الوباء الوباء؟) لا أعني ان نمط حياتنا كأطفال كان نموذجيا، ولكنه بالتأكيد كان خاليا من الوساوس، ولولا أن بلدتنا كانت جزيرة نهرية مما كان يتيح لنا السباحة بانتظام، لما عرف معظمنا الاستحمام إلا في الأعياد، وحتى الكبار كانوا يعتقدون أن كون «النظافة من الإيمان» يتعلق فقط بالغسل والوضوء، وكتبت كثيرا عن أستاذي البريطاني عندما كنت ادرس الإخراج التلفزيوني في لندن -وكانت تلك أول مرة أغادر فيها إفريقيا- ودعاني الأستاذ لتناول وجبة الغداء، وقادني عبر أزقة من تلك الشاكلة التي نراها في أفلام الرعب وتجارة المخدرات، ثم دخل بي جحرا كانت به طاولتان فقط، وفي ذلك المطعم الجحر رأيت الذباب لأول مرة في لندن، ولأنني أتمتع ببجاحة لا نظير لها فقد قلت له: هل يعطونك مكافأة نظير الأكل هنا؟ وقبل أن يرد أضفت: لنذهب إلى مطعم ابن ناس وأنا أتحمل قيمة الفاتورة. ولكنه رد بكل برود: اسمع يا متخلف، أنا عشت عشر سنوات ما بين إثيوبيا وتنزانيا وزامبيا وشربت مياه البرك وأكلت مع الرعاة والمزارعين من صحن واحد من دون غسل الأيدي، وعانيت لشهر أو شهرين، وبعدها صارت معدتي «مصفحة»، وأنصحك بتجنب الأكل المعقم والخبز الذي ملمسه كالحرير؛ باختصار أعطاني محاضرة عن كيف ان الجسم يقوم بتطبيع العلاقات وتوقيع معاهدة عدم اعتداء مع الجراثيم والبكتيريا في البيئات الريفية. وبعد أن «تحضرت» وعرفت الأكلات «الراقية» عرفت التهاب القولون وعسر الهضم والبواسير.
مشاركة :