أكدنا في عديد من المقالات السابقة التي تم نشرها في صحيفة أخبار الخليج حقيقة أن الدول التي لديها إطلالات بحرية، بقدر ما يمثل ذلك ميزة نسبية كبيرة الأهمية تتيح لها الانفتاح على العالم، وتيسر لها التبادل التجاري والنقل عبر البحر، وتوفر لها موارد غاية في الأهمية مصدرها البحر كالثروات السمكية والغوص للبحث عن اللؤلؤ، فضلا عن الثروات الكامنة في أعماق قاع البحر كالبترول والغاز أو نتيجة إطلالتها على البحر كالسياحة البحرية والرياضات البحرية وخدمات الموانئ، وخدمات الأحواض الجافة وغيرها. فإنه يمثل لها أيضا مسؤولية إضافية وتحديا كبيرا ولاسيما في ظل تصاعد التهديدات البحرية كالقرصنة والتسلل والتهريب وتلويث مياه البحر بالنفايات الصناعية وغيرها، ما يتطلب أن تجهز قوة بحرية ذات كفاءة متعددة المهارات والتخصصات، وتوفر لها التجهيز والتسليح المناسبين فضلا عن السفن والقطع البحرية التي تحملها والتي تعد عماد الأمن البحري وقوة دفاع وردع استراتيجي، وها هي الأحداث التي تشهدها منطقة الخليج العربي تثبت دقة ومصداقية ما أكدناه، حيث تهدد الزوارق البحرية الإيرانية السريعة حركة الملاحة العالمية في الخليج العربي وبحر عمان والبحر الأحمر فضلا عن مضيق هرمز، وكذلك تهديد أمن الإمدادات والإضرار بالبيئة البحرية وما يمثله ذلك من خطر على الاقتصاد العالمي. فقد أثبتت التحقيقات الدولية علاقة إيران بالعمل الإرهابي الذي استهدف سفنا سعودية وإماراتية قرب سواحل دولة الإمارات العربية المتحدة، فضلا عن تعرض ناقلات نفط نرويجية للتهديدات ذاتها، وتشير الأنباء أيضا إلى قيام زوارق إيرانية سريعة بمنع قاربين من قطر ناقلة النفط النرويجية فرنت ألتير المعطوبة في خليج عمان. كما تعرضت ناقلتان للمواد الهيدروكربونية في بحر العرب لهجوم مسلح، ومن بينهما سفينة تحمل الميثانول من ميناء الجبيل. كل هذه التجاوزات والتهديدات الأمنية البحرية تحدث في المنطقة على الرغم من الوجود الكثيف للقطع والقوات البحرية الأمريكية فيها. وما ينبغي ذكره أن أمن الملاحة في المنطقة سبق أن تعرض للتهديد إبان الحرب العراقية الإيرانية، عند قيام زوارق إيرانية عام 1987م بمهاجمة ناقلة نفط كويتية ترفع العلم الأمريكي، وردت البحرية الأمريكية بتدمير منصتي نفط إيرانيتين، وإغراق (3) مدمرات إيرانية، وإعطاب فرقاطتين. واستمر هذا المشهد في مياه الخليج العربي، وألحق أضرارا بالغة باقتصاد إيران إضافة إلى اقتصادات دول الخليج العربي التي تحملت تكاليف تحقيق الأمن البحري، من خلال تمويل كلفة مرافقة القوات البحرية الأمريكية لناقلات النفط في الخليج العربي آنذاك. كما سبق أن شهدت المياه الدولية في المنطقة تهديدات وأعمال قرصنة بحرية خاصة قرب السواحل الصومالية والقرن الإفريقي عامة، بلغت أكثر من (30) هجوما لزوارق سريعة، طالت سفنًا تجارية في المياه الصومالية خلال عام 2007م فقط. وأن تكرار ما سمي في سنة (1987م) بحرب الناقلات في الوقت الحاضر ولجوء قوات البحرية الأمريكية إلى مرافقة السفن الداخلة للمناطق والممرات البحرية الأكثر تعرضا للتهديد، أو اللجوء إلى خصخصة الأمن البحري في المنطقة عبر شركات الأمن الأمريكية والأوروبية ، سيؤدي حتما إلى ارتفاع الأعباء المالية التي تتحملها دول المنطقة، ويؤكد أهمية ما كنا دائما ندعو إليه؛ أي تنمية وتوطين الصناعات البحرية في دول مجلس التعاون الخليجي باعتبارها عنصرا حيويا إن لم يكن العنصر الأهم في تحقيق الأمن البحري الخليجي، وتحقيق التوازن العسكري البحري مع إيران وغيرها من الدول الطامعة والمهددة لأمن دول مجلس التعاون الخليجي بحرا، والتي تمتلك أساطيل وترسانات بحرية كبيرة، مهيأة للعدوان والإرهاب، وفي الوقت نفسه تسعى إلى تهديد دولنا برا، عبر خلاياها النائمة وعملائها المأجورين سواء من الوافدين إلى دول المجلس أو من بعض المواطنين المغرر بهم أو الأحزاب والنظم التي نشأت في كنف النفوذ الإيراني في عدة دول عربية بالمنطقة. كما أن امتلاك دول المجلس للصناعات البحرية المسلحة والمعدة للقتال والمراقبة البحرية، مثلما يوفر لدول المجلس عامل توازن استراتيجيا مع إيران وامتداداتها الإقليمية، يحد ويمنع من احتمالية نشوء حرب شاملة في المنطقة، فإنه ينأى بدول المجلس عن ضغوط الدول الكبرى ومحاولاتها مقايضة الأمن بالمال، وتحميل دولنا تكاليف تداعيات الأزمات الدولية والإقليمية. بالإضافة إلى توفر مقوماتها الصناعية والتقنية والتمويلية والبشرية في دول المجلس، ولإمكانية تحقيق مزايا تنافسية إلى جانب المزايا النسبية الناجمة عن المقومات المتوافرة، فضلا عن إمكانيته في أن يكون بمثابة قاطرة تنموية مهمة. واليوم وفي ضوء التطورات الأمنية الإقليمية والعالمية المتسارعة من جانب، والتطورات الاقتصادية الاستراتيجية التي تشهدها دول المجلس يصبح لزاما الإسراع بتبني استراتيجية خليجية للصناعات البحرية كجزء من الاستراتيجية الخليجية للأمن البحري، ولتضاف إلى منجزات دول المجلس في بناء منظومة عسكرية، بدأت بتأسيس قوات درع الجزيرة سـنة 1982م، ثم تلاها إنشاء منظومة القيادة والسيطرة الموحدة، وإنشاء القيادة العسكرية الموحدة، وافتتاح مركز العمليات البحرية الموحد 2016م، وإنشاء قوة الواجب البحري «81»، والبدء في تفعيل مركز العمليات الجوي والدفاع الجوي الموحد. وينبغي أن تتضمن الاستراتيجية الخليجية للصناعات البحرية، صناعة وإصلاح وتطوير السفن والمعدات الملاحية والعسكرية البحرية بأنواعها المتعددة، وبما يسهم بشكل كبير في تعزيز قدرات القوات البحرية لدول المجلس ويمنحها فاعلية أكبر لمواجهة التحديات الأمنية وصولا إلى تمكين قطاعاتها العسكرية البحرية من حفظ الأمن والاستقرار البحري. وكلما كان التصنيع البحري يعتمد أحدث التكنولوجيات القائمة عالميا، ويتم إنجازه محليا بأيدي مواطنة مدربة ومؤهلة، ويستهدف صنع القطع البحرية الأكثر فاعلية في حفظ الأمن البحري كالفرقاطات والغواصات الحديثة وغيرها، أسهم ذلك في تعزيز قدرات القوات البحرية على ردع العدو، ومنعه من التفكير في الاعتداء عليها، وتحقيق الأمن وحماية الحدود البحرية والمصالح الاقتصادية، وتوفير حرية الملاحة البحرية الآمنة ودعم أمن الموانئ والمضائق الوطنية والإقليمية، وأصبح محفزا لتشجيع توطين حزمة من النشاطات الاقتصادية المرتبطة بالبحر. حفظ الله دولنا من كيد وإرهاب وأطماع المتربصين بها شرا وأعان حكوماتنا الحكيمة على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب بحكمة وتبصر بعيدا عن محاولات الأعداء توريطنا في حروب تدمر اقتصاداتنا وترهق مستقبل أجيالنا، والله الحافظ من كل شر ومكروه. { أكاديمي وخبير اقتصادي
مشاركة :