في كتابه “سيدات الطرب والغناء في مصر من أيام المماليك حتى أوائل القرن العشرين” يقول الباحث المصري عمرو علي بركات إن أقدم كتاب مصري لتأريخ فن الغناء هو كتاب “سفينة الملك ونفيسة الفلك” للشيخ شهاب الدين محمد ابن إسماعيل في حوالي منتصف القرن التاسع عشر، وظل الحال على ما هو عليه حتى جاء القرن العشرون فأصدر الموسيقار محمد كامل الخلعي كتابه “كتاب الموسيقى الشرقي” ثم تبعه أحمد تيمور بكتابه “الموسيقى والغناء عند العرب” ثم كتابات الباحث الأكاديمي محمود حنفي. أما أقدم كتاب وصل إلينا عن الغناء العربي، كما يقول بركات، فهو “كتاب النغم”، تأليف يوسف الكاتب، وهو الذي سبق كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني. ويذكر كمال النجمي في كتابه “تراث الغناء العربي” أن الخليل بن أحمد الفراهيدي قد ألف كتابين هما كتاب “الإيقاع” وكتاب “النغم” قبل تأليفه كتبه في العروض الشعرية واللغة والتأريخ الفني، غلب عليهما الارتباط بالسير الشخصية للمغنين في كل عصر. وبين هؤلاء المطربين والمطربات من احتفى بهم التاريخ، وهناك من تم تجاهلهم، غير أن هؤلاء الذين لم يجدوا ذكرا، ربما كانوا أو كن أكثر تأثيرا وأثرا في مستوى الذوق مِن غيرهم الذين احتفى بهم التاريخ الفني. وأكثر من تجاهلهم التاريخ هن المغنيات، فـإذا مـا قلبت في هـذه الصفحات المطوية من هذا التاريخ المنسي فلن تجد أمامك سوى أسماء لامعة لمغنيات تألقن وازدهرت سيرتهنّ، وصدحت أصواتهنّ في الملاهي والحانات كما في قصور الأمراء والملوك على حد السواء. الجمع بين فنينمنذ العصر المملوكي اختلطت سير المغنيات بسير الراقصات، ربما يرجع الأمر إلى ارتباط الفنين معا، وتلازم احترافهما، فكانت المغنية هي من تقوم بالرقص في الحفلات، وقد شاع في مصر اسم “العالمة” كإشارة إلى من تحترف الفنين معا (الرقص والغناء) وهو اسم ليس له سند في قواميس اللغة العربية، كما يقول الباحث، فالكلمة نفسها تحمل معاني مفارقة لما وقر في الذهن عن كلمة عالمة التي تقوم بالغناء في الأفراح والصالات. وذهب المستشرق الإنكليزي إدوارد وليم لين إلى أن كلمة عالمة مشتقة من الكلمة العبرية ذات الأصل الفينيقي “علماه” ومعناها فتاة أو عذراء أو مغنية، وربما يعكس هذا الأصل اللغوي للكلمة الجذور التاريخية للمغنيات ذوات الأصول اليهودية في مصر. وفي كتابه يحاول الكاتب المصري عمرو علي بركات تسليط الضوء على عدد من الأسماء البارزة في مجال الطرب والغناء اعتمادا على الكثير من المراجع والمصادر التاريخية، ومن بين هذه الأسماء يبرز اسم “خوبى العوادة” التي عاشت في حوالي القرن الرابع عشر ميلاديّا، والتي ذكرها صلاح الدين الصفدي في كتابه “أعيان العصر وأعوان النصر”، قائلا “كانت جارية الأمير سيف الدين بكتمر الساقي اشتراها بعشرة آلاف دينار مصرية، وكانت مغنية وعوادة بادية الحسن والطرب، اشتراها وهام في هواها وأسكنها في داره على بركة الفيل”، وقيل عن جمال صوتها الكثير، إذ وصفها الصفدي في كتابه بأنها “إذا جست أوتارها أخذت من القلوب أوتارها، وجرى من لطف أناملها الماء في العود، وإذا غنت أغنت عن الأطيار، وإذا عنت عنت قلوب البررة الأخيار”. وبين أولائك المغنيات أيضا من تسابق الملوك والأمراء على كسب ودهنّ، بل والزواج منهنّ أحيانا، كحالة المطربة “اتفاق” التي حظيت باهتمام ثلاثة من كبار المؤرخين، وهم المقريزي وابن حجر العسقلاني، وجمال الدين أبو المحاسن ابن تغري بردي. وحظيت المغنية اتفاق -وكانت علامة في عصرها- بحب ووله ثلاثة من الملوك من أبناء الملك الناصر محمد بن قلاوون، وهم الملك الصالح إسماعيل والملك الكامل شعبان والملك المظفر حاجي. وتزوجت اتفاق من الأول وأنجبت له ولدا، ثم تزوجت من أخيه الملك الكامل شعبان، وبعد وفاته تزوجت خفية من أخيه الملك المظفر حاجي، ويقال إن الأخير شغف بها وملكت قلبه وأفرط في حبها حتى شغلته عن الحكم، وبدأ الأمراء يتحدثون في أمرها حتى خشي من انقلابهم عليه فتخلى عنها مكرها، واستولت عليه الأحزان حتى مات. التنكيل بالمطربة هيفامن بين أبرز سير المطربات في العصر المملوكي وأكثرهنّ مدعاة للأسى سيرة المغنية “هيفا”، وكان يطلق عليها “هيفا اللذيذة” التي ذكرها المؤرخ محمد البقلي في كتابه “الطرب في العصر المملوكي”، وقد ارتبط اسم هذه المطربة بالسلطان قنصوة الغوري آخر سلاطين المماليك في مصر في القرن السادس عشر الميلادي، إذ عرف عنه أنه كان مولعا بها، وكان يصحبها في جلسات سمره، هذا قبل أن ينقلب عليها لأسباب غير معروفة، فأمر بسجنها حيث تعرضت للضرب والإهانة لتتوقف بعدها عن الغناء وتعاني من الفقر والعوز حتى وفاتها. ومن عصر المماليك ينتقل الكاتب إلى الحديث عن أشهر المطربات اللاتي ظهرن خلال القرن التاسع عشر في مصر، كالمطربة “ساكنة بك” التي منحها الخديوي إسماعيل رتبة البكوية تكريما وإعزازا لها، وقد جاء ذكرها في كتاب المستشرقة الإنكليزية لوسي دوف جوردن، فوصفتها بأنها ذات صوت خشن لكنه رائع ومبهر، وأنها كانت تحصل على ما يعادل خمسين جنيها إسترلينيا على الأقل مقابل الغناء ليلة واحدة. ومن بين مشاهير المطربات أيضا يأتي ذكر المطربة “نعيمة المصرية” التي تألقت خلال السنوات الأولى من القرن العشرين، وكذلك المطربة “ألمظ” التي ارتبط اسمها بالمطرب عبده الحامولي وشكلا معا ثنائيا مميزا، وخلدتها السينما المصرية بفيلم أنتج عام 1962 بعنوان “ألمظ وعبده الحامولي” من إخراج حلمي رفلة، أدت فيه الفنانة وردة دور ألمظ والفنان عادل مأمون دور عبده الحامولي. ولا ينسى الكاتب ذكر واحد من أشهر الألقاب الفنية وأكثرها شيوعا للمغنيات والراقصات خلال النصف الأول من القرن العشرين، وهو لقب “شخلع”، والذي جاء ذكره كما يقول الكاتب على نحو متفرق في كتب التأريخ الغنائي لعدد من المغنيات في عصور مختلفة، يذكر من بينهنّ أمينة شخلع، وسنية شخلع، ونبوية شخلع ولبيبة شخلع، غير أن شيوع اللقب على هذا النحو كان سببا في ارتباك المؤرخين على ما يبدو فضاعت السيرة الذاتية لكل منهن.
مشاركة :