كتبت هنا بالأمس كلاما فحواه أن طفولة أبناء وبنات جيلي لم تكن بائسة كما يحسب جيل عيالنا وعيال عيالنا، ولكنها لم تكن في الوقت نفسه طفولة منعّمة ورائعة، ولكن ما ميزها هو أننا كنا في حالة تصالح مع بيئتنا، بدليل أننا لم نكن نعيش في هلع كما هو الحال اليوم من انتشار أمراض وعلل من شاكلة أنفلونزا البعير والحمير والحميات الوبائية وفقدان المناعة، والتهابات الكبد، ورغم أنني نشأت في جزيرة تتوسط نهر النيل وكل شبر فيها تغطيه الخضرة فإنني لم أعرف البعوض إلا بعد أن انتقلت إلى المدينة (الحضارة). وليس من باب التباهي أن أقول إن أول حقنة/ إبرة طبية انغرزت في جسمي وعمري 13 سنة، وقبلها مرضت كثيرا، ولكن لم يكن في ثلاجة بيتنا أي دواء، لأنه لم تكن في بيتنا ثلاجة، ولم تكن في بيتنا ثلاجة لأنه لم يكن في بيتنا كهرباء، ولكن أمي كانت تحتفظ بتشكيلة من العلف، كل صنف منها يتولى علاج علة معينة، وكان بعضها ملفوفا في قطع أقمشة يخيل إلي أنها كانت من بقايا أشرعة سفينة نوح، وبعضها الآخر في علب تعاني من أمراض جلدية، وكان ذلك زمانا لم يكن الناس فيه يرمون شيئا في مقلب القمامة، لأنه لم تكن هناك مقالب قمامة، ولم نكن نعرف ما يسمى «بواقي الأكل»، فكل وجبة كانت تطبخ في حينها، وحتى لو تبقى منها شيء وفاحت منه رائحة «الشياط» فقد كنا نعتبرها صالحة للأكل، وكان الكبار يقولون لنا إن الأكل يتعفن في البطن على كل حال وبالتالي فلا ضير في تناوله وهو متعفن. باختصار كانت بطوننا تهضم الزلط. ولكن المهم هو أن الأكل متوافر بما يكفي بطوننا، وبين الوجبات كان بإمكاننا تناول ما نشاء من التمر المخزون في صوامع فخارية ضخمة تسمى باللغة النوبية «قُسّي»، بل كنا نأكل أربع وجبات في الشتاء. فلأن البرد في شمال السودان قطبي فقد كنا نتناول إفطارا كاملا في أول الصباح يتلوه الإفطار المعتاد في نحو التاسعة صباحا، ولم يكن يمر يوم من دون ان نتناول السمن (الذي صار اسمه الزبدة) أو شيئا مطبوخا بالسمن، ويبدو أن زبدة «زمان» كانت خالية من الكولسترول، وكانت النشويات العنصر الأساسي في كل ما نأكل، ومع هذا لا أذكر أنه كان بيننا شخص يعاني من البدانة، ذلك أننا كنا نقضي معظم اليوم خارج البيوت، بل نبتعد عن بيوتنا لمسافات بعيدة. ولأنه لم تكن هناك هواتف جوالة فلم يكن بمقدور أهلنا أن يتجسسوا علينا أو إصدار الأوامر بعودتنا الفورية إلى البيوت، وكان لكل واحد منا أصدقاء كثر في مختلف الأحياء، نزورهم ونلعب معهم ونحن في أمان. كل الناس من حولنا يعرفوننا ونحن نعرفهم، ونعرف حدودنا أمام الكبار وواجبنا نحوهم. وحتى لو غاب الواحد منا عن البيت عشر ساعات متصلة، لم يكن في ذلك ما يدعو الآباء والأمهات للانزعاج، فلأن الكل عائلة واحدة لم يكن هناك من يتحرش بالأطفال، وكنا نلعب سويا أولادا وبنات حتى سن العاشرة أو الـ12 وحتى عندما كنا نتعامل مع البنات كجنس آخر كنا نلعب عروس وعروسة بكل براءة وطهر وعلنا أمام الآخرين، ونقلد طقوس الزواج وتطلق البنات الزغاريد ويتبارى الأولاد في التصفيق الإيقاعي بالأكف، وكنا نتسلق الأشجار وإذا سقطنا منها وأصبنا بجروح نمسح محل الجرح بالتراب أو الملح. هناك من قد يقول عن جيلنا إنه كان محروما، لا لم يكن محروما، فقد كان الطعام متوافرا ولدينا ملابس؛ صحيح كان حال ملابسنا يتكسف ولكنها كانت تستر؛ وجيلنا وفي كل الدول العربية هو الذي بنى وشيد وعمَّر، ولكنه -لاحقا- طغى وتجبر وتنمَّر وتعنتر، ورفض ان يتزحزح لإتاحة الفرصة للأجيال الصاعدة فدمَّر كل ما عمَّر!
مشاركة :