منطقة وادي النطرون بأديرتها الأربعة وهي دير البراموس، دير الأنبا مقار، دير الأنبا بيشوي، دير السريان، محور دراسة "البناء الاجتماعي للدير بوادي النطرون.. دراسة انثروبولوجية للرهبنة القبطية المعاصرة" للباحثة د. أليس اسكندر بشاي تتناول البناء الاجتماعي للمجتمع الديرى القبطي، والاهتمام بظاهرة الرهبنة من شكلها الواضح إلى باطنها العميق، نظرا لأهميتها وتأثيرها على الفكر المسيحي عامة، وعلى مسيحية الغرب بنوع أخص، فقد امتد أثرها في مناطق كثيرة من العالم من عدة نواح. بدأت الرهبنة كحياة وحدة. ثم تحولت إلى الديرية فتكونت الأديرة وصارت مجتمعات لها طابع خاص، ولم تقتصر حياة الرهبان والذين يعيشون في وحدة على ذاتهم، ولكن كثر الذين يزورونهم ويلتمسون منهم الإرشاد في حياتهم وسلوكهم. ومن هنا كان للرهبنة تأثير اجتماعي خارج حدود الوحدة والأديرة. بل تولى بعض هؤلاء الرهبان قيادة تلك المجتمعات إذ أصبحوا كهنة لكنائسهم في المدن. فلو عرفنا أن الكاهن المسيحي يستمع إلى اعترافات الناس في كل تفاصيل حياتهم، ثم يرشد المعترف بما ينبغي أن يفعله لأدركنا تأثير هؤلاء الرهبان في المجتمعات التى عاشوا فيها. ورأت بشاي أن الأمر لم يقتصر على هذا، وإنما بدأت الكنائس تختار رؤساءها من بين الرهبان وتطور الأمر حتى أصبحت رئاسات كل الكنائس قاصرة على الرهبان وحدهم. واستقر هذا الأمر منذ القرن الخامس الميلادي. فأصبح البطاركة والمطارنة والأساقفة من الرهبان وحدهم، بما لهؤلاء من تأثير في المجتمعات التي يعيشون فيها. وهذا التأثير يرجع إلى شخصياتهم وإلى المعتقدات الدينية في احترام رجال الدين وطاعتهم. ولما كانت الكنيسة القبطية والدير القبطي، يمثلان جانبا من جوانب البناء الاجتماعي للمجتمع المصري باعتبارها مصدرا للمؤثرات والمبادئ الفكرية والدينية والأفكار القيمية، ونظرا لأن البناء الاجتماعي يقوم على أبنية داخلية لا يمكن التوصل إليها بالدراسة، وفي العادة يجهلها الباحثون حتى أتباع الديانة أنفسهم. فإن موضوع الدير القبطي يعتبر جديرا بالدراسة. وخاصة أن الرهبنة القبطية منبع الرهبنة في العالم المسيحي كله، فقد نشأت في مصر أولا ومنها انتقلت إلى بلاد العالم. وقالت "تتلمذ قادة الرهبنة في العالم على آباء الرهبنة المصريين. لذا نقلوا تعاليمهم ونشروها، وحاولوا أن يقتدوا بها. وبانتشار الرهبنة في مصر تكونت مدارس رهبانية، وتعددت وتنوعت النظم الرهبانية فوجدت رهبنة قاصرة على الوحدة ـ يسمونها طبقة السواح ـ عاش فيها الرهبان عشرات السنوات لا يرون وجه إنسان، كما وجد أيضا الذين عاشوا في مغارات تسمح لهم وحدتهم أحيانا أن يقابلوا بعض الزوار، كما في النظام الأنطوني، أيضا وجدت جماعات رهبانية يحكمها نظام دقيق حازم تعيش تحت إمرة رئيس الدير، يدير وينظم كل شيء كما في النظام الباخومي، ووجدت جماعات رهبانية طابعها العام الوحدة، ولكنها تلتقي معا مرة واحدة كل أسبوع، وفي المناسبات كالأعياد كما في النظام المقاري. ولكن كانت أشهر الجماعات الرهبانية هي تلك التي سكنت منطقة وادي النطرون. ولفتت بشاي أنها تناولت البناء الاجتماعي في أعماق الأديرة بنفس الطريقة التي يدرس بها عالم التشريح، الشعيرات والأعصاب والعضلات في الكائن الحى ليصل إلى حقائقها ووظائفها. ومن ثم تناولت نشأة ظاهرة الرهبنة درجاتها، والأسباب التي تدعو إنسانا إلى الاندماج في سلك الرهبنة. كما ذكرت كيف بدأت الرهبنة كحياة وحدة مطلقة لا يختلط فيها الراهب بأى إنسان آخر مثل الأنبا بولا السائح. ثم بدأت تعرف كنظام على يد القديس انطونيوس أب جميع الرهبان الذي عاش في وحدة كاملة في مغارات في الجبال، ثم تحول من متوحد، إلى أب يحيا حياة الوحدة وله تلاميذ يرشدهم. ثم ظهرت رهبنة القديس مقاريوس في وادي النطرون، وهو نظام يعيش فيه الرهبان في وحدة خلال الأسبوع، ويلتقون في مساء السبت للصلاة معا حتى صبيحة يوم الأحد، ثم يتناولون الطعام معا ويعود كل منهم إلى وحدته. أى أن هناك أنواعا في الوحدة منها الوحدة الكاملة، والوحدة الجزئية، وظهر أيضا في نفس الوقت تقريبا نظام الديرية أو الحياة المشتركة في الصلاة والعبادة والعمل وتناول الطعام على يد القديس باخوميوس حيث وضع قوانين وأنظمة لتنظيم الحياة الديرية، تلك التي يجتمع فيها الرهبان معا في دير واحد، في مجتمع متناسق متكامل، يقوم على الاكتفاء الذاتى، ويخضع لرئاسة حازمة قوية، تحفظ النظام، وترشد وتقود وتعاقب وتطرد أيضا من الدير إذا لزم الأمر. ثم جاء الأنباء شنودة الذي طور حياة الشركة وجعلها أكثر صرامة. وأوضحت بشاي "في الديرية كانت الوحدة والعزلة بالنسبة للعالم الخارجي فقط، أما الوحدة داخل الدير لم تكن متوافرة كما في النظام الأنطوني والنظام المقاري. وحاليا أصبح كل دير يضم تقريبا الأنماط الرهبانية جميعها، ففي الدير الواحد يوجد من يعيش حياة الوحدة الأنطونية، ومن يعيش حياة الوحدة الجزئية المقارية، ومنهم من يعيش الحياة الديرية تحت قايدة رئيس الدير، وإرشاد الأب الروحي الذي يسمح لكل راهب بما يناسب روحانيته ومواهبه واستعداداته لحياة الوحدة. وأكد أن الرهبنة كظاهرة نسكية مسيحية ظهرت في مصر أولا، وانتقلت منها إلى كثير من بلاد العالم في الشرق والغرب. وإن كان النسك كظاهرة دينية ظهر العديد من الديانات الأخرى ليس عن طريق الانتشار الثقافي كما في الرهبنة المسيحية، وإنما نتيجة لتوافر ظروف بيئية واجتماعية معينة، ولتشابه العقلية الإنسانية. وكشفت بشاي عن أن هناك بنية اجتماعية معينة تتميز بها تلك الأديرة، الجانب الأول منها هو رحلة الشخص الذي يذهب بعيدا إلى مكان بعيد، وينضم إلى جماعة غريبة عنه يرتضي الانتماء إليها، والجانب الثاني يرينا شخصا يستطيع التحكم في مصيره، ولا يخضع خضوعا أعمى لأية جماعة. بل يستطيع اختيار حياته اختيارا حرا. وهو في هذا يستبدل بعائلته البيولوجية أسرته الرهبانية التي ينتسب إليها. وإن كان هذا لا يتم إلا بعد ممارسة طقوس الشخص لإنضمامه لهذا المجتمع. وأيضا يفسر الانتقال من نظام النسب العائلي إلى الأسرة الديرية الرهبانية. كما تحتل الأبوة الروحية مكانا ممتازا في التصورات الاجتماعية للمجتمعات العادية. وتساءلت بشاي هل يكون الدير مجتمعا متكاملا؟ وإن كان كذلك فهل هو مجتمع عادي أم يختلف عن المجتمعات العادية؟ وقالت "إن الدير يكون مجتمعا متكاملا، غير أن المجتمع الرهباني مجتمع غير عادي لعدة أسباب لا تتوافر في باقى المجتمعات. فالمجتمع العادي نواته الأسرة سواء كان المجتمع قبيلة أو عشيرة، إنما الوحدة البنائية فيه هي الفرد، وليست مجموعة أسرات، أما هو مجموعة أفراد. والرابطة التي تربط بين فردين، ليست هي القرابة البيولوجية أو رابطة الدم، أو حتى رابطة الوطن الواحد أو البلدة الواحدة، وإنما هي مجتمع تربطه روابط روحية لا جسدية، وله هدف واحد مشترك وليس عدة أهداف، وهو محبة الله. أيضا المجتمع العادي يسعى فيه كل فرد وراء الرزق، سواء عن طريق الوظيفة أم عن طريق استغلال الثروة، وبيحث عن زيادة موارده المالية والاقتصادية. بينما المجتمع الرهباني لا يوجد فيه من يبحث عن الثروة والمال. لأن الفقر الاختياري مبدأ من مبادئ الرهبنة قبله العضو بانضمامه لهذه الجماعة. وأضافت "أوقف بعض الأغنياء بعض الأراضي الزراعية والمنازل على الأديرة في الريف والمدن لسد ما يلزمهم بدلا من العطايا والهدايا التي يأتي بها البعض. أي هناك مصدر لسد الاحتياجات. ومع ذلك فيمكن للراهب أن يعمل أو لا يعمل على حد سواء، وإن كان الراهب في البداية يعمل من أجل العمل نفسه، ولكن من أجل اختيار مدى قدراته والتعرف على قامته الروحية، ومدى استعداده لخدمة الآخرين ومحبتهم، لأن العمل يساعد على الكشف عن ضعفات الراهب، وما بقى في داخل أعماقه من محبة العالم، وبالتالى يمكن معالجتها أو التخلص منها. أي أن الهدف من العمل هو هدف روحي بحت، ومن أجل فائدة ومنفعة الراهب الروحية. لذا فالراهب الذي يعيش في مغارة لا يعمل، ومع ذلك يكفل له الدير كل احتياجاته من طعام وكساء ومستلزمات الحياة الأخرى والراهب الذي يعمل لا يتقاضى أجرا عن عمله، وليس هنا علاوات أو ترقيات، إنما هو يعمل كشركة في الحياة، ويتعاون مع أفراد المجتمع الذي يعيش هو معهم، ولقضاء الوقت والبعد عن الملل ومحاربة الأفكار. ولفتت بشاي أن المجتمع الرهباني فيه حد أدنى للسن لقبول الأعضاء في هذا المجتمع، ولأنه مجتمع بلا أطفال أو صبية، وأنما أقل من يعيش فيه عمرا، لا بد أن يكون قد بلغ سن الرشد على الأقل، وبالنسبة للرجال لا بد وأن يكون معافى من الخدمة العسكرية. أيضا المجتمع العادي له اهتمامات متعددة بأهداف مختلفة، أما الدير فهو يتميز بأن له اتجاها معينا، وطابعا مميزا في الحياة، وهدفا محددا مخصصا، لا يوجد فيه مؤسسات كثيرة تلك التي يستلزمها التنوع في المجتمعات الأخرى، فلا يوجد به مدارس وطرق ومواصلات ولا وسائل إعلام أو ترفيه، ولا يوجد احتياج لساحات القضاء والمحاكم وما شابه ذلك. ومع أن الدير مجتمع غير عادي إلا أنه مجتمع متكامل تتوافر فيه جميع عناصر التكامل، فهو يتكون من مجموعة من الأفراد يعيشون في بقعة ما، يحتل كل منهم مركزا معينا أو عددا من المراكز والمنزلات التي يشغلها، ويقوم بأدوار معينة تتطلبها تلك المراكز والمنزلات التي يحتلها. فهناك أنواع للرهبنة وهي الراهب الحبيس، الذي يعيش في وحدة مطلقة في المغارات، والسائح ولكل منها شروط محددة لاختيار من يشغلها، وأيضا محددات لكل منها تحدد السلوك الذي يسلكه وعلاقاته بالأخرين، ممن يكونون في مرتبة رهبانية أقل أو أعلى منه. أيضا هناك عدد من المراكز الثابتة بتلك الأديرة إلى حد ما كالأسقف وأمين الدير وأمين المكتبة وحارس الباب وأمين المخزن. لا بد من أن تتوافر في تلك الديرة بصرف النظر عن الأفراد الذين يشغلونها. وكشفت أن هناك تقسيما للعمل بين الرهبان، وإن كان هذا التقسيم يختلف عن المجتمع العادي، إذ أن الهدف من العمل هدف روحي، لذا فتقسيم العمل تحكمه القيم الروحية والمبادئ الرهبانية، ويقوم على الأسس النسكية التي تساعد الراهب على الوصول إلى أعلى الرتب النسكية. وهذه الأسس تحدد العلاقات الاجتماعية داخل الدير ومع كل ذلك، فهذا المجتمع ليس منفصلا عن العالم الخارجي تمام، فالراهب ليس منعزلا انعزالا كليا تاما، بل أن له علاقات اجتماعية بالعالم الخارجي (العالم الخارجي المقصود به كل ما هو خارج أسوار الدير) تتمثل في علاقته بالكنيسة، فالدير يمد الكنيسة والمجتمع المسيحي بالآباء والأساقفة والمطارنة والبطاركة، وإن كانت الحياة الرهبانية في البداية بعيدة عن الرتب الكهنوتية إلا أنه بمرور الوقت درجت الكنيسة على تقليد ثابت هو اختيار البطاركة والأساقفة من الرهبان أيضا، ثم رهبانا آخرين يشغلون وظائف الرعاية والخدمة في بعض الكنائس. وأكدت بشاي أن الأديرة فتحت أبوابها للزوار لقضاء فترة خلوة روحية، وأيضا حالات التعمير الحالية اضطرت الأديرة إلى الاستعانة ببعض العمال والمقاولين من غير الرهبان. كما أن الدير يتصل بالعالم الخارجي لسد ضروريات والتزاماته الأخرى. من هذا يتضح أن الدير ليس منقطعا عن العالم تماما، بل أن له اتصالات وعلاقات ويؤدي دورا في الحياة الاجتماعية للمجتمع الذي ينشأ فيه. وبالتالي يمكن القول إنه مجتمع متكامل تكامل الكائن الحي يتكون من أفراد يعيشون في بقعة محددة، ويحتلون عددا من المراكز يقومون فيها بأدوار معينة وتنشأ بينهم علاقات اجتماعية ثابتة. ومهما تعاقبت السنون فإن البناء الاجتماعي للدير يظل نظامه كما هو وغير معرض لعوامل التغير التي يتأثر بها أي نظام اجتماعي دنيوي وينطبق عليه معنى البناء الذي تصوره ايفانز بريتشارد وخلاصته. "أفراد يدخلونه وآخرون يخرجون منه لكنه ثابت على مر السنين".
مشاركة :