لصاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، العديد من المؤلفات الأدبية الإبداعية والبحثية والتوثيقية، منها ما كان متصلاً بالتاريخ والجغرافيا والإعلام، ورفد سموه المكتبات العالمية والعربية والمحلية بعدد غير قليل من هذه المؤلفات طوال أربعة عقود من الزمان، بدءاً من عام 1986م حيث كان إصداره الأول. في العام 2011 بدأ سموه في إصدار سلسلة من الدواوين الشعرية لجده الشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي حاكم الشارقة («1924 ـ 1951م)، حيث أصدر في ذلك العام أول دواوين هذه السلسلة تحت عنوان «نشيج الوداع ـ القصائد الأخيرة للشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي». ثم أصدر سموه عام 2017 الديوان الثاني لجده تحت عنوان «مساجلات شعرية بين الشيخ سلطان بن صقر وصديقه الشيخ محمد بن عبد العزيز الصديقي»، وفي العام 2018 أصدر سموه الديوان الثالث تحت عنوان «الطيب في قصائد الشيخ سلطان بن صقر القاسمي». وهي سلسلة يكتسب نشرها أهمية كبيرة ضمن جهود نشر الأدب الإماراتي المتصل بالقرن العشرين، خاصة الشعر الفصيح في النصف الأول من ذلك القرن، وما قبله. إن جمع صاحب السمو حاكم الشارقة قصائد الشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي ونشرها ضمن هذه السلسلة الشعرية، ينصف في جانب منها التجربة الشعرية لجده، ويعيد تسليط الضوء على إنتاجه الشعري الذي كان غائباً عن كثير من المهتمين بتاريخ الشعر في الإمارات، إلا أنه من جهة أخرى يطرح تساؤلاً مهماً حول مقدار الإنتاج الشعري لشعراء إمارات الدولة على امتداد تاريخها في القرون الماضية، الفصيح أو النبطي منه. وهذا السؤال يمكن أن نصوغه على النحو الآتي: كم من شعر آبائنا وأجدادنا فقدناه ولم نسارع إلى البحث عنه، ومن ثم تدوينه وحفظه ودراسته؟ تلقي هذه التجربة الضوء أيضاً على النتاج الأدبي الذي صدر عن شعراء الإمارات أثناء وجودهم في الخارج، وتحديداً في الهند التي كان يتردد عليها أبناء الإمارات منذ مئات السنين، لأسباب عديدة، منها التجارة والعلاج. ويأتي الشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي على رأس قائمة الشعراء الذين نظموا قصائد أثناء وجودهم في الهند، وبهذا الكم من القصائد، وتحضرنا أيضاً في هذا الخصوص قصائد الشاعر خلفان بن مصبح التي نظمها في الهند أثناء فترة علاجه، وكذلك قصائد أحمد بن سلطان بن سليم، وسالم بن علي العويس، وغيرهم من الشعراء. تكتسب هذه القصائد أهميتها أيضاً من تسليطها الضوء على شعر حكام إمارات الدولة، سواء في الشعر الفصيح أو النبطي. وكذلك إبراز الجانب الأدبي/ الشعري لدى الأسرة الحاكمة في إمارة الشارقة، أسرة القواسم الكرام، وحبهم للأدب واهتمامهم به منذ أمد بعيد. استقصاء وبحث ومن المهم هنا أن نشير إلى أن اهتمام صاحب السمو حاكم الشارقة بالنتاج الشعري للشيخ سلطان بن صقر، قاده إلى استقصاء وبحث كبيرين، فتوصل إلى قصائد غير معروفة لجده، وهي قصائد تحمل أهميتها في المشهد الشعري الإماراتي القديم، وقد نجم عن الجهد الذي بذله مشكوراً صاحب السمو حاكم الشارقة إصدار ثلاثة دواوين شعرية مهمة للشيخ سلطان بن صقر، سنسعى جاهدين لاستقصاء كل ديوان منها على حدة، واستعراض أهم المكونات الشعرية والفكرية لقصائده، وظواهرها. أما أول هذه الإصدارات، فقد حمل عنوان: «نشيج الوداع ـ القصائد الأخيرة للشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي» وضم ثماني وعشرين قصيدة، وذكر صاحب السمو حاكم الشارقة في مقدمته نبذة عن شاعر الديوان، فذكر أنه مولود في 23 يونيو 1906م، وتولى الحكم في إمارة الشارقة في 16 أكتوبر 1924م، ونظم الشعر وهو ابن الحادية والعشرين، استناداً إلى ما ذكره الشاعر نفسه في إحدى قصائده. وفي المقدمة، أوضح جامع قصائد الديوان ومحققها الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي أن أول ما وقع بين يديه من شعر الشيخ سلطان بن صقر كان في صورة مخطوط مجلد أهداه إليه أبناء المرحوم السيد هاشم الهاشمي، يحتوي على قصائد للشيخ سلطان بن صقر ومساجلاته مع بعض الشعراء، ثم أخذ بعدها في البحث عن مزيد من قصائده، ليعثر على دفتر تحتفظ به أسرة عمه الشيخ ماجد بن صقر القاسمي، يضم القصائد التي قالها في فترة مرضه في الهند، وتبدأ من شهر مايو 1949م، كما يضم في آخره قصيدة قالها في أثناء وجوده في أحد مستشفيات أوروبا التي سافر إليها في الثامن من فبراير 1951 لاستكمال علاجه فيها، وظل فيها إلى أن توفي في مارس من عام 1951م. ثم أهدت الشيخة شيخة بنت محمد بن صقر القاسمي إلى صاحب السمو حاكم الشارقة مجموعة من القصائد التي كانت لدى زوجها المرحوم الشيخ خالد بن سلطان بن صقر القاسمي نجل الشاعر، وضمت المجموعة أوراقاً تحتوي على القصائد نفسها التي كانت في الدفتر الذي أهدته إليه الشيخة عزة بنت عبدالله بن خادم زوجة المرحوم الشيخ ماجد بن صقر القاسمي، مع زيادة في عدد القصائد التي خطها الشيخ سلطان بن صقر القاسمي بنفسه. وفي ضوء ما توافر لصاحب السمو حاكم الشارقة، أصدر سموه هذا الديوان الذي صنّف قصائده تحت عشرة عناوين، يمكن أن نطلق عليها باقات شعرية، معنونة على النحو الآتي: 1- قصائد يوم الوداع. 2- قصائد أرسلها إلى أبنائه. 3- قصائد إلى آل صقر. 4- قصائد أرسلت إلى إخوته. 5- قصائد النصح. 6- قصائد في الوطنية. 7- قصائد في التعليم. 8- قصائد في القضاة. 9- التشريح. 10- القصيدة الأخيرة. قضايا وهموم إن أول ما تصافحه عين القارئ عند قراءتها قصائد هذا الديوان، هو العاطفة الجياشة التي تفيض بها أبياتها، والنابعة عن الذات المرهفة. كما يمكننا أن نستجلي بوضوح مجموعة من القضايا التي شغلت شاعر الديوان، من أهمها: 1- شؤون القضاء. 2- شؤون التعليم. 3- استمرار المراسلات والتواصل مع الأهل والرفاق. 4- الاطمئنان على أحوال الأهل والأصدقاء والشعب. ويمكن أن نميز بوضوح أربع ظواهر موضوعية في قصائده، شكّلت هاجساً لديه، ومحركاً للصور الشعرية عنده، هي: 1- معاناة المرض. 2- الشعور بالغربة. 3- الشوق إلى الأهل. 4- الحنين إلى الوطن. كما يمكننا أن نتلمس في عدد غير قليل من قصائده، حضوراً كبيراً لتفاصيل ذكريات لا تفارق خياله، كتلك التي تتصل بلحظات وداع أهله قبل سفره إلى العلاج، مثال ذلك قصيدته «أحبائي» التي يقول فيها: يذكرني يوم الوداع صبيحة ولوعة وجدٍ بالحشا وزفيرُ تودعني توديع وجلٍ وخائفٍ كأن شفاء دائي [صار] عسيرُ وتوديع رب البيت والدمع جارٍ تقول فلا قلبٌ لديّ صبورُ ثم يقول في موضع آخر من القصيدة مستعيداً مشهد ابنه الشيخ محمد وهو يودعه بدمعة لم يستطع حبسها: ولم أنس توديع الحبيب محمدٍ بوقتٍ بدا الطيار كاد يطيرُ مكباً على وجهي ويسكب دمعة وتأخذني الحمى إذاً فأخورُ وهكذا تتجلى تفاصيل الفراق المؤلمة، التي لم تبارح ذكرياتها ذهن الشاعر، ولم يستطع أن يكتمها، فعبر عنها في هذه القصيدة التي أرسل فيها أيضاً تهانيه لأهله بحلول عيد الفطر، ومعبّراً عن تفاؤله بنجاح علاجه وشفائه بعون الله: ولكن ظني بالكريم وواثق بأن يشفني وهو قدير بصيرُ ولكن الذكريات ترفض أن تبتعد عنه، فتعود إليه، ليتذكر صباحات أعياده في الشارقة بين أحبته فيقول في القصيدة ذاتها: يذكرني بعد انقضاء صلاتكم وطلعتكم نحو البلاد تسيرُ وتشريف إخواني وصحبٌ أعزة وشعب كريم للسلام يزور إن تذكّر الشاعر شعب الشارقة الكريم الذي يأتي للسلام عليه في صباح العيد، يوضح لنا رابط المودة والحب التقدير الذي يجمع بين الحاكم وشعبه، وهو تعبير يأتي هنا لا على لسان الشعب، بل على لسان الحاكم الشاعر. لم تكن الأبيات السابقة، الوحيدة التي خصصها شاعر الديوان للحديث عن ذكرياته مع الوداع، إذ تلت القصيدة السابقة التي كان عنوانها: «أحبائي»، قصيدة: «بين الضلوع شمعة» التي يبث فيها أشواقه لأحبته وأهله، ومن أبياتها: أنتم منى قلبي وأنتم سلوتي نومي عُقيب بعادكم عني نفي وإذا النسيم أتى لنا من نحوكم فيهزني طرباً وعنكم أحتفي ويستمر حضور هذه الذكريات فيما بعد في أغلب قصائد الديوان بشكل لافت. أما قصائد الديوان التي وردت تحت عنوان «قصائد أرسلها الشاعر إلى أبنائه»، فبلغ عددها ثلاث قصائد، الأولى أرسلها إلى الشيخ صقر بن سلطان، والثانية إلى الشيخ خالد بن سلطان، والثالثة قالها في أبنائه، وهي قصائد تمتزج فيها عاطفة الأب المحمّلة بمشاعر الحب والخوف على أبنائه والنصح والدعاء لهم، ونجده يخاطب ابنه الشيخ صقر قائلاً له رداً على رسالته إليه: فيا أيها الابن الذي كنت أرتجي طوال حياتي زاكيات فعائله غذوتك مولوداً وصنتك يافعاً رجائي بأن ألقى الذي فيك آمله إن المتأمل لهذه القصيدة يجد فيها جوانب من الصفات الشخصية والقيادية لديه في منصبه حاكماً للإمارة، أما المتأمل لقصيدتيه اللتين يخاطب فيهما ابنه الشيخ خالد بن سلطان القاسمي، فسيجد أن الأولى تحمل موقفاً عاطفياً مؤثراً جداً، نتج عن وصول صورة ابنه الشيخ خالد بن سلطان القاسمي إليه، فتأثر تأثراً كبيراً، وقال: أتى رسم من أهوى فزاد تشوّقي فوا أسفي، متى [متى] نحنُ نلتقي؟ جرى قدر الرحمن بالبعد بيننا فوا حسرتي منه عليّ تحرّقي لقد كنت مسرور الفؤاد بقربهم ولا نشتكي هماً ولا من تفرقِ نروح ونغدو في المسرة والهنا وليس بنا من قبل في يومه شقي لعل الذي أجرى التفرق بيننا يمن علينا باجتماعٍ فنلتقي أما القصيدة التي يوجهها لابنه الشيخ خالد أيضاً، فيعاتبه فيها بحنان الأبوّة مستفسراً عن سبب تأخره في مراسلته. وفي ثالث باقة من قصائده، نجد قصيدتين تحت عنوان «قصائد إلى آل صقر»، وجههما إلى الأسرة القاسمية من آل صقر، وفيهما مشاعر دافئة توضح مدى ارتباطه بأسرته ومحبته لهم، وقوة العلاقة التي تجمعه بأفرادها: أسفي على وقتٍ مضى أسف التويجر إذ خسر فما ذكرت لقاءكم إلا وقلبي ينفطر وما قرأت كتابكم إلا ودمعي ينحدر وجاءت قصيدته الثانية التي يخاطبهم فيها لتكشف عن مرور سنة على وجوده في الغربة بعيداً عنهم، متحملاً مصابه، وصابراً: داءٌ بلينا به والله قـــدّره صبراً على ما جرى والله يشفينا فما اشتكيتُ لمخلوق صبابتنا إلا لمن قد بلانا فهو ينْجينا ثم تأتي باقة القصائد التي أرسلها إلى إخوته، وهم الشيخ محمد بن صقر القاسمي (ثلاث قصائد)، والشيخ ماجد بن صقر القاسمي (قصيدتان)، والشيخ راشد بن صقر القاسمي، والشيخ حميد بن صقر القاسمي (قصيدة لكل واحد منهما)، ونجد أن قصيدته الأولى التي أرسلها إلى الشيخ محمد بن صقر قد كتبها «إثر إرسال الشيخ محمد رسم صورته الكريمة»، ما يصور لنا مدى التأثير الذي كانت تتركه الصور في ذلك العصر في النفوس عند تلقيها بالبريد أثناء الغربة: رسم الحبيب أتى فهاج المنطقُ يا رسم ما لك صامتٌ لا تنطقُ؟ ولا يختلف تأثير الرسائل كثيراً عن تأثير الصورة في نفس شاعر الديوان، إذ يقول في قصيدته الثالثة التي يوجهها لأخيه محمد، مصوراً التأثير الذي تركته رسالته في نفسه عند تسلمه لها: ورد الكتابُ فما ملكتُ دموعي وأباح سراً قد خفتهُ ضلوعي وبالانتقال إلى الباقة السادسة من القصائد، المعنونة باسم «قصائد في الوطنية»، نجد أنها تمثل الجانب المرتبط بالفكر القيادي لدى الشيخ سلطان بن صقر القاسمي، حيث نجد أربع قصائد، عنوان الأولى «الحث على الائتلاف»، ويخاطب فيه صديقه الشاعر سالم بن علي العويس، مطلعها: وقائلة طال احتباسك في الهندِ فوالله ما بي من سعاد ولا هند أما القصيدة الثانية فيتحدث فيها الشاعر عن إمارته الشارقة، وذكرياته فيها وحنينه إليها وإلى من فيها من أسرته وشعبه، قائلاً: تذكرت أياماً بقرب أحبتي ومجلس أنسٍ للمكارم قد حوى وفيهم عزيز النفس أعني محمداً كريم السجايا للمكارم قد هوى ثم يوضح في موضع آخر من القصيدة شعوره بالضيق من وجوده بعيداً عن وطنه، فيقول: ولولا عضال الداء في الرِّجْل عاقني وأسأل رب العرش أن يذهب البلوى لما كان لي في الهند أدنى مقامة وما اخترتها دون الأحبة لي مأوى ويختتم القصيدة قائلاً: فأهدي سلامي إخوتي وبني أبي وأولادنا والعائلات على السوا وأصحابنا والمخلصين جميعهم وشعباً كريماً للمفاخرِ قد حوى أما قصيدته التي عنوانها «الشارقة الغراء» في الباقة نفسها المعنونة باسم «قصائد في الوطنية»، فيقول معبراً عن اشتياقه لإمارته، ممتدحاً ابنه الشيخ محمد بن سلطان القاسمي: نفسي بشارقة الغرّاء شارقةً شوقي إلى حبها شوقي مغانيها قد زادني ولعاً بل زادني هلعاً والدمع جارٍ بخدّي من تنائيها فيها محمد من طابت أرومته فخر القواسم قاصيها ودانيها التعليم.. وعي ومسؤولية في قصائد الباقة السابعة من باقات الديوان، وعنوانها «قصائد في التعليم»، يتجلى لنا انشغال الحاكم حتى في أثناء رحلة علاجه، بقضية التعليم في الإمارة، حيث نجد ثلاث قصائد، تعبر عن علاقته الوثيقة برجال التعليم في الإمارة، والاهتمام الذي يوليه الحكام للتعليم، ونجده يخاطب في إحدى هذه القصائد التي أرسلها من بومبي في مايو 1950 الأديب مبارك بن سيف الناخي مدير مدرسة الإصلاح القاسمية آنذاك، والتي أسسها الشيخ سلطان بن صقر القاسمي عام 1948م (قبل سنة من سفره إلى الهند للعلاج)، فيشيد بصفات الناخي وعلمه وأمانته وتقواه: أنتَ يا كريم الأعراق عندي مثل سامي الأخلاق فخر زمانه الهمام الأريب والشهم الأ ديب والفذ المرتضى في الديانه والتقي النقي والسيد الوفي والأبي من أهل الصيانه وفي إحدى قصائد هذه الباقة، يخاطب الشيخ سلطان بن صقر أحد المعلمين في مدرسة الإصلاح القاسمية، وهو أحمد بن محمد بو رحيمة، فيبلغه تحياته، ويشكره على جهوده التي يبذلها في التعليم قائلاً: إني لأشكر منك حالاً طيباً فيما اعتنيتَ بفلذة الأكبادِ ويدعوه في آخر القصيدة إلى الاستمرار في جهوده التعليمية قائلاً: ثابر على حفظِ البنين وحثهم فهم الحياة وهم منار بلادي فالشعب ينعش إن يكن متعلماً وأخو الجهالة شأنه كرمادِ وتمثل هذه القصائد في غرضها، شاهداً مهماً على الاهتمام الذي كان يوليه حكام الإمارات في القرن الماضي بالتعليم، وهو اهتمام ينطلق من وعي بالمسؤولية التي في أعناقهم تجاه أبناء المنطقة. صلات طيبة مع القضاة إن تأمل قصيدتي الباقة الثامنة في الديوان، المعنونة باسم «قصائد في القضاة»، يجعلنا نتوقف ملياً عند عدد من الجوانب في شخصية الشيخ سلطان بن صقر، منها مدى أهمية القضاء وحرصه عليه، حتى في أثناء سفره في الخارج. كما توضح قصائد هذه الباقة، الصلات الطيبة التي كانت تجمع الشيخ سلطان بالقضاة من مختلف الإمارات، إذ إنه يخاطب في القصيدة الأولى قاضي الشرع في الشارقة، وفي الثانية يخاطب القاضي المفتي في عجمان. أما قصيدته الأولى التي أرسلها إلى الشيخ سيف بن محمد المدفع قاضي الشرع في الشارقة، فيبلغه فيها سلامه وتحياته المرفقة بأشواقه وتذكره أيامه في الشارقة، ثم يشيد بالقاضي وأمانته، ويدعو الله أن يجتمع به وبأهالي الشارقة فيها قريباً. أما قصيدته الثانية فيرد فيها على قصيدة صديقه القاضي حمد بن المحارب المطيري القاضي المفتي في عجمان، وكان المطيري قد أرسل إلى صديقه الشيخ سلطان بن صقر قصيدة يستفسر فيها عن سبب انقطاع رسائل الشيخ إليه، فما كان من الشيخ إلا أن أرسل موضحاً عذره بتواضع الكبار، طالباً من صديقه أن يقبل عذره، قائلاً: ولكن ظنّي أنكم لم تكن بها مكان اعتمادي أنت ناءٍ ومبحرُ فعفواً عزيز القدر عفواً فإنني على كل حالٍ عن وفاك مقصّرُ مذكرات شعرية إن ديوان «نشيج الوداع» يكتسب أهمية أدبية وتاريخية كبرى، إذ إنه يرصد مجموعة من القيم الفكرية والاجتماعية والتاريخية والأخلاقية في ذات الشاعر، والتي عبر عنها قائلها في الديوان بصوت الحاكم حيناً، وبصوت المواطن والأب وكبير الأسرة والتربوي والأديب والصديق في أحيان أخرى. توثق قصائد هذا الديوان أيضاً لأحداث وأسماء مهمة في تاريخ إمارة الشارقة. وتلقي الضوء على الأدوار التي أدتها بعض الشخصيات في مسيرة النهضة الحضارية التي شهدتها إمارة الشارقة خلال القرن العشرين. كما يمكن اعتبار هذا الديوان شكلاً من أشكال المذكرات الشعرية لرحلة الشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي في فترة علاجه في الخارج، لتشكل بذلك غرضاً من الأغراض الشعرية في إنتاجه الأدبي. أما المعجم اللغوي الذي تكوّنت منه قصائد الديوان، فهي تستحق دراسة مستقلة، إذ إنها تعكس المستوى الأدبي والمستوى المعرفي لدى الشاعر من جهة، ومن جهة أخرى تدلل على خصوصية اللهجة المحلية في بعض منها وصلتها بالفصحى السائدة خلال فترة حياة الشاعر. ويبقى أخيراً تحليل القصائد في موضوعها المتصل بدراسات شعر الاغتراب الذي يمكن رصده في القصيدة العربية، بدءاً من الشعر الجاهلي، كما يمكننا أن نلاحظ أن قصائد الديوان تتلامس في بعض جوانبها وثيماتها بقصائد شعراء المهجر، مثل الحنين الجارف إلى الوطن والاشتياق إليه، وتأمل النفس الإنسانية، والتحاور مع الطبيعة المحيطة بالشاعر والامتزاج بها، والابتعاد في اللغة الشعرية عن التكلف، وذلك على الرغم من أن التجربة الشعرية للشيخ سلطان بن صقر بن خالد القاسمي في الديوان ليست نتاجاً لشكل من أشكال الهجرة، بل هي وليدة شعور بالغربة، كان السبب فيها رحلته العلاجية في الخارج. قصيدة التشريح: صبرتُ عليها صبر من لا يضعفُ تنقل لنا قصيدة التشريح، وهي القصيدة قبل الأخيرة في الديوان، صورة من صور يوميات رحلة علاجه في الخارج، والأغلب أنه كتبها بين شهري فبراير ومارس من عام 1950، حيث يقول: وما ساءني التشريح فيهُ منافعُ لعل به رب البرية يلطفُ وليس لنا من حيلةٍ دون وقعها وليس به من فضل ربي تكلفُ تعوّدتُ مسَّ الضرِّ حتى ألفتهُ وأصبح عندي عادة لا تُخلفُ ويوضّح في موضع آخر من القصيدة عدد الأشهر التي مرت به هناك، وهي عشرة أشهر، مؤكداً صبره وإيمانه بأن الشفاء بيد الله عز وجل، فيقول: مضى لي عشرٌ بالجروح وإنني صبرتُ عليها صبر من لا يضعفُ وأيقنتُ أن الله جل جلالهُ هو المبتلي الشافي وبالحالِ ألطفُ أما آخر قصائد الديوان فهي من أواخر ما قاله الشيخ سلطان بن صقر من شعر في حياته، إن لم تكن آخر قصائده فعلا، ويعود تاريخها إلى الثامن من مارس 1951، ونظمها بعد مضي شهر على وصوله إلى أوروبا لاستكمال علاجه في أحد مستشفياتها بعد فترة علاجه في الهند، وقد توفي بعد أسبوعين من كتابته هذ القصيدة التي قالها في وزيره إبراهيم بن محمد المدفع، يعاتبه فيها على انقطاعه عن مراسلته، بأسلوب عتاب رقيق ورفيع، قائلاً: فهل حرّمَت كتْب المودّة بيننا أهجر [لنا] أم أصبح الطبع غالبا ألا أيها الخل العزيز قطعتني لكتبك حتى خلت أنْ لستَ كاتبا مضى لي شهر في أوروبا ولم يصل كتابكَ حتى خلتكم لستَ عاتبا
مشاركة :