يحاول الرئيس التركي استثمار كل مناسبة أو حدث سياسي أو إنساني يتعلق بمصر وتوظيفه لتصفية حساباته معها، بعد تكبده خسائر في ملفات إقليمية مهمة، مثل ليبيا والسودان وشرق المتوسط، وقيام القاهرة بدور معتبر، مع حلفاء عرب، في إجهاض مشروعه لتصعيد تيار الإسلام السياسي في المنطقة. انعكست تجليات هذه القضايا في القفز على حادث وفاة الرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، القيادي بجماعة الإخوان المسلمين، حيث شن أردوغان هجوما شرسا أكثر من مرة على القاهرة، وحرض جهات دولية على إجراء تحقيق في الوفاة المفاجئة في قاعة محكمة مصرية، الاثنين، وتصويرها على أنها عملية “اغتيال”، مع أنها وقعت أمام عدد من الحضور، وبعد أن ألقى مرسي كلمة أمام القاضي استمرت نحو عشرين دقيقة. سياسة انتهازية تؤكد المعلومات المتوافرة أن المعركة الكلامية لدى الرئيس التركي أبعد من أن تكون مسألة وفاة قيادة إخوانية هذه المرة، وهي تنطوي على أهداف لها علاقة بأوضاعه المهتزة داخليا، والحدّ من الاستنزاف السياسي قبل أن تتراكم التحديات فيصعب علاجها. خرجت القاهرة، الخميس، عن صمتها المعتاد في الردّ على انتقادات أردوغان الكثيرة، والتي تراجعات حدّتها الأسابيع الماضية بعد أن أخذت شكلا مواربا بعض الشيء، لكنها عادت بقوة مع وفاة محمد مرسي، وهو ما جعل وزارة الخارجية المصرية تصدر بيانا يعتبرها “غير مسؤولة ولا ترقى إلى مستوى التعليق الجاد عليها.. وأردوغان تدخّل بشكل سافر في شأن وفاة مرسي من خلال ادّعاءات واهية تتضمن التشكيك في وفاته الطبيعية بل والاتهام بقتله، والتلويح بإثارة الأمر دوليا، وغير ذلك مما تفوّه به من تجاوزات فجة”. يبدو أن أردوغان وجد نفسه أمام صيد ثمين ربما يمكنه من تحسين موقفه السياسي في معركة إعادة الانتخابات على رئاسة بلدية إسطنبول الأحد المقبل، والتي خسرها حزب العدالة والتنمية عند إجرائها لأول مرة، ثم طعن فيها، وصدر حكم بإعادتها، على أمل أن يتمكن الحزب من تنظيم صفوفه وكسب الجولة الثانية منها، لأن خسارتها في المرة الأولى تحوّلت إلى هزيمة قاسية لأردوغان، وأضحت دليلا على تراجع نفوذه في المعقل الرئيسي للحزب الحاكم، في إسطنبول. الأمر الذي ضاعف من المخاوف على المصير الذي ينتظره مع تنامي الخلافات الداخلية، وتزايد الغضب من سياساته. المعركة الكلامية لدى الرئيس التركي تنطوي على أهداف لها علاقة بأوضاعه المهتزة داخليا، للحد من الاستنزاف السياسي قبل أن تتراكم التحديات فيصعب علاجها وقال الباحث التركي محمد عبيدالله لـ”العرب” إن تزامن وفاة مرسي مع إقبال تركيا على انتخابات إسطنبول، شكل فرصة جيدة لأردوغان ليستغلها في رصّ صفوف مؤيديه والدفع بهم إلى صناديق الاقتراع، بعد أن استاؤوا من ضغوطه على اللجنة العليا للانتخابات حتى اتخذت قرار الإعادة الذي أراحه كثيرا”. وأضاف أن كلام أردوغان لا ينبع من مواقف مبدئية أو يعبر عن تضامن عضوي وأيديولوجي مع جماعة الإخوان، كما هو معتاد، حيث إن الرجل ظهر “كمن سرّ بوفاة مرسي في هذا التوقيت بالذات، لأنه يرى كل شيء من حوله أداة للدعاية، وبعد أن وصف مرسي بالشهيد بادر مباشرة إلى الحديث عن السياسة الداخلية، التي تمثل الهاجس الأكبر له”. زعم أردوغان أن أكرم إمام أوغلو، مرشح المعارضة لبلدية إسطنبول، هو رجل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في تركيا، وتساءل “هل ستنتخبون يلدريم (بن علي يلدريم) أم السيسي”. وهذه العبارة تكشف الغرض الحقيقي لأردوغان من الحملة الشديدة على القاهرة. وبدأت قوى تركية معارضة لحزب العدالة والتنمية تتحدث عن هذه المسألة بكثافة في محاولة للانتقام من أردوغان وفضح ألاعيبه السياسية وانتهازيته الدائمة في توظيف هذا النوع من الأحداث، أملا في تعويض خسائره بالداخل، واستعادة قدر من الزخم في الوقت الراهن، وتقديم نفسه على أنه زعيم إقليمي يناصر القضايا الإنسانية، في سعي آخر للتغطية على تجاوزاته في هذا الملف. بينما تعتقد دوائر تابعة لجماعة الإخوان المسلمين أن هجوم أردوغان على القاهرة وتشكيكه في وفاة مرسي، يقدمان لها دعما كبيرا في إرباك الحكومة المصرية، والضغط عليها بورقة حقوق الإنسان، وهي النافذة التي تتسرب منها انتقادات دولية عديدة، لذلك وجدت في الوفاة تعاطفا نسبيا من جهات مختلفة، حاولت مساواتها بوفاة الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وعلى اعتبار أن ملف الحريات وحقوق الإنسان في مصر تحيط به هواجس كثيرة، ولم تفلح الخطوات التي اتبعتها القاهرة في تبديد غالبيتها. وتضمن الرد المصري الموجه إلى مفوضية الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، التي دعت إلى تحقيق مستقل في وفاة مرسي، جوابا صريحا على اتهامات أردوغان، حيث أعاد إلى الأذهان انتهاكات حقوق الإنسان الفظيعة في تركيا، والتي طالت عشرات الآلاف من المواطنين العاديين والأكاديميين وأعضاء القضاء والشرطة والمؤسسة العسكرية، والنساء والأطفال، بذريعة الصلة بالانقلاب العسكري قبل عامين، أو بجماعة عبدالله غولن المعارضة، وهو ما يعني أن وزارة الخارجية المصرية كأنها أرادت أن تقول لأردوغان “إذا كان بيتك من زجاج فلا تقذف الناس بالحجارة”. ورجح عبيدالله، المقيم في القاهرة، أن نسبة كبيرة من أنصار أردوغان سيقاطعون الانتخابات أصلا أو يدعمون مرشح المعارضة إمام أوغلو الذي يرونه قد ظلم من قبل السلطة في مسألة الإعادة. أردوغان في تراجعكشفت استطلاعات الرأي لشركات مختلفة دلت على أن مرشح المعارضة يتقدم على غريمه بن علي يلدريم مرشح حزب العدالة والتنمية، ورئيس الوزراء السابق، بنسبة 3 بالمئة، وهناك شركات مرموقة ترفع هذا الفارق إلى 9 بالمئة، مثل شركة “كوندا” الرائدة في مجالها. وتدل كل المؤشرات على أن المعارضة أمامها فرصة كبيرة للفوز مرة ثانية برئاسة بلدية إسطنبول. ويعتقد الباحث التركي، أن ذلك “ليس مضمونا، في ظل ما يمكن أن يفعله أردوغان، وإذا تمكن إمام أوغلو من الفوز، فإن الرئيس التركي بدأ فعلا يهدده عن طريق جهاز القضاء، حيث ألمح إلى استخدامه لمنعه من رئاسة إسطنبول قبيل بدء ماراثون الانتخابات”. وأوضح أردوغان في إطار تعليقه على المزاعم الواردة حول سبّ إمام أوغلو لوالي مدينة أوردو قائلا “إذا رفع الوالي في مدينة أوردو الأمر أمام القضاء، وسيفعل ذلك، فإن القرار الذي سيصدره القضاء -أنا لا أعرفه بالتأكيد- لكنه سيقضي على آمال أكرم إمام أوغلو”لكن المعارضة لن تقف مكتوفة الأيدي ومن المرجح أن تمارس ضغوطا كبيرة على أجهزة الدولة التركية، كي تدعم تحقيق الإرادة الشعبية مهما كان الثمن، وقد أكد حزب الشعب الجمهوري أنه اتخذ كل التدابير اللازمة للحيلولة دون التلاعب في نتائج إسطنبول، في محاولة لردع أنصار أردوغان، وأن هناك إجراءات تصعيدية يمكن أن تتخذ ضدهم الفترة المقبلة. وأشار عبيدالله إلى أن هناك “جهات مختلفة في الدولة التركية ذات قوة ونفوذ، والكثير من نواب حزب العدالة والتنمية يريدون لتركيا أن تنفلت من قبضة أردوغان الحديدية وتعود مرة أخرى إلى مسار الدستور والقانون في أقرب وقت، وهو لن يستطيع الحفاظ على نظامه، كما كان سابقا، لكنه لن يستسلم بسهولة، وإنما سيتراجع وهو يناضل كي لا يخسر جميع مواقعه”. وفي رأي البعض من المراقبين فإن الغضب يتزايد داخل المؤسسة العسكرية التركية من تصرفات أردوغان، والهدوء الظاهر حاليا ربما لا يعبّر عن حقيقة ما يجري داخلها، وقد تنتهز فرصة سقوط مرشح حزب العدالة والتنمية في انتخابات إسطنبول لاتخاذ إجراءات حاسمة لمنع فوضى محتملة، بسبب توجهات الرئيس التركي التي تعتبر خسارة بلدية إسطنبول نكأ لجرح عميق في مستقبله السياسي، لذلك يريد فوز مرشحه بأي وسيلة ومهما كلفته من أثمان سياسية باهظة، وهو ما يجعله يتخبط يمينا ويسارا في الملفات السياسية الخارجية..
مشاركة :