يقول سفر يشوع بن سيراخ: «إذا اتخذت صديقاً، فاتخذه بعد الامتحان ولا تثق به سريعاً» (7:6). مما لاشك فيه أن الصداقة الحقيقية أعظم عطية منحها الله للبشرية، لأنها تُخفف آلام الكثيرين وتضاعف أفراحهم. مَنْ منّا لم يندم سواء لفقدانه صديقا مُحِبا ومخلصا أو لاكتشافه آخر خائناً أنكر كل ما قُدِّم له من جميل؟ ومَن لم يندم على صديق فقده لأنه لم يقبل منه النصيحة؟ ما أطيب الصداقة عندما تأتينا من أشخاصٍ مُخلصين يساعدوننا على فعل الخير والفضيلة، إنهم كنزٌ لا يُقَدّر بثمنٍ، بينما إن كانوا على خلاف ذلك فهُم مصيبة تضر أخلاقنا وتفسد حياتنا، هؤلاء يُطبّق عليهم القول المأثور: «يارب خلّصنى من أصدقائى، وأنا كفيل بتدبير أعدائي!» لأن الشخص الذى يريد أن يبتعد ويتجنّب الأصدقاء الفاسدين، يحتاج إلى شجاعةٍ وجرأةٍ وعزيمة قوية. نستطيع أن نراجع ذاتنا لنكتشف كم من الأصدقاء الذين قدّموا لنا خدمات ووقفوا بجانبنا فى لحظات الشدّة والضيق، ولكننا لم نلتفت إليهم ولم نعيرهم اهتماماً، حتى إننا لم نُسمعهم كلمة شكر أو امتنان، أيضاً هؤلاء الذين قدّموا لنا يد المعونة فى بؤسنا وشقائنا وأثناء ملاحقة الأخطار لنا، ومع ذلك تحاشيناهم وفضّلنا الهروب من أمام وجههم. لذلك علينا أن نتحلّى بالحكمة فى اختيار الأصدقاء الذين يبنون حياتنا على فعل الخير وتجنب الشر، لأن الصديق الحقيقى هو مرآة لصاحبه، يكشف له عن حسناته وعيوبه، ولكن دون أن يجرح مشاعره، كما أنه يساعده على تجنّب سلبياته. يعتقد الكثير منّا أن قوة الصداقة تكمن فى الكلام والحديث بين الأصدقاء، ولكن الفيلسوف الإنجليزى توماس كارليل يحكى عن مكوثه لساعاتٍ طويلة مع صديقه الحميم، وأحياناً كثيرة دون أن يفتح أحدهما فاه لينطق بكلمةٍ، وعند ساعة الرحيل يصافحه قائلاً: «أشكرك على هذه الأمسية الرائعة التى قضيناها معاً وإلى اللقاء غداً». فالصداقة الحقيقية يقل فيها الكلام ويتضاعف العمل، تختفى فيها المجاملات وتزداد التضحيات، لأنها تعتمد على لغة الصمت التى تُعتبر أصدق من الكلمات. فأساس الصداقة الحقيقية يعتمد على المجانية والقدرة فى بذل الذات والتعزية أثناء الشدّة والفرح بنجاح الآخر. ونقرأ فى سفر يشوع بن سيراخ: «الصديق الأمينُ ملجأٌ حصين ومَن وَجَدَه وَجَدَ كنزاً» (14:6). وكما يقول الصحفى اللامع أمبروز بييرس: «الصداقة هى سفينة تستطيع أن تحمل شخصين عندما تبحر فى مياه هادئة، ولكنها تحمل شخصاً واحداً عندما تكون مياه البحر هائجة». كم مرة اختبرنا هذه التجربة التى نجد فيها الأصدقاء القريبين منّا متواجدين فى لحظات السعادة والهناء والصحة والغنى؛ وعندما تعصف بنا الرياح ويثور البحر وتعلو الأمواج، نصطدم بالواقع المرير الذى فيه يقفزون من المركب ويفرّون هاربين؟ إذاً.. هذه التجربة هى لحظة اختبار الصداقة الحقيقية، وفيها نميّز بين الصديق الأمين وذلك المزيّف الذى يتبخّر فى ثوانٍ معدودة عندما تحل الكوارث ولا نجد أثراً له، فالصديق الوفى يلازمنا فى الغنى والفقر، فى الصحة والمرض، فى الفرح والحزن. ذات مرة قال الظل للإنسان: «أنا صديقك الوفى الذى يلازمك ليلاً ونهاراً، عندما تشرق الشمس أسرع إليك وأتقدّم أمامك لأفسح لك الطريق، وعند الظهيرة أجلس تحت قدميك، وحين تغرب الشمس أتبعك خطوة بخطوةٍ إلى حيث تمضى، وعندما يطلع البدر ألازمك فى جولات المساء أيضاً». فقال له الصديق: «ولكن أين تذهب يا صديقى الوفى حين لا تكون هناك شمس ولا قمر؟» فصمت الظل من وقته، فاستطرد الإنسان قائلاً: «إن الصديق الحقيقى هو الذى يظهر عندما تظلم الدنيا ويُسرع ليؤنس صديقه ويقف بجانبه حتى بلوغ النهار فيودّعه ويختفى». فالصديق الوفى هو الذى يصمد بجوارنا حتى ولو تخلّى عنّا جميع الناس، ولا يتأثر بمركزنا ولا بمالنا، ولا تتزعزع محبته سواء كنّا فى مركزٍ مرموق أو فقدناه، كم من الأصدقاء الذين ظهروا فى لحظات النعيم، ولكنهم اختفوا عن أنظارنا عندما حلّت علينا الكارثة؟ ويقول ألبير سرلاند: «عندما يضحك صديقى فمن واجبه أن يبوح لى بسر فرحه؛ أما عندما يبكى، فمن واجبى أن أكشف النقاب عن سر شقائه»، لنتعلّم من الأم التى تشعر بآلام أبنائها قبل أن يتفوهوا بها. ونختم بكلمات الشاعر الفرنسى ڤيكتور هوجو: «إذا كنتَ نباتاً فكُن حساساً، وإن كنتَ حديداً فكُن مغناطيساً، وإن كنتَ حجراً فكُن ماساً، وإن كنتَ إنساناً فكُن حُباً»..
مشاركة :