تم الحكم على الرئيس، رجب طيب أردوغان، بالسجن في فترة شبابه، بتهمة إلقاء قصيدة في تجمع سياسي، ومنذ ذلك الحين وطوال فترة صعوده، انتحل شخصية بطل الحرية والعدالة، وحظي بترحيب واسع النطاق على الإصلاحات القضائية التي قام بإجرائها في بداية حكمه، بحسب ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز". ولكن، وبعد ما يقرب من عقدين من حكم أردوغان، فإن أوضاع القضاء في تركيا تمر بأزمة تقيد حياة الملايين من المواطنين في إجراءات قانونية ملتوية، وانخفضت ثقة الجماهير في العدالة انخفاضاً لم يسبق له مثيل من قبل عبر سجلها الطويل، الذي لا يعرف الاستقرار. يقول معارضو أردوغان إن أسلوبه الاستبدادي في الإدارة والمحسوبية، داخل الحزب الحاكم، يقوض الثقة والأداء في جميع أنحاء القطاع العام في تركيا، من اقتصاد وتعليم وعمل. وربما تكون المحاكم التركية هي المثال الأكثر إلحاحاً، إذ يقول خبراء قانونيون إن عمليات التطهير المستمرة، وممارسات استنزاف العقول أفسدت القضاء، وأصيب هؤلاء القضاة، الذين ما زالوا في وظائفهم بالشلل بسبب مناخ الخوف. وستكون العدالة على رأس الأولويات التي تشغل أذهان الجماهير غدا الأحد، حيث ستصوت اسطنبول في إعادة انتخابات منصب العمدة، الذي نجح حزب أردوغان في إلغاء نتائجه بعد فوز المعارضة بهامش ضيق في 31 مارس الماضي، وأمر المجلس الأعلى للانتخابات بإعادة التصويت، بموجب قرار قانوني انتقده الكثيرون. القضاء فقد استقلاله وقال عمر فاروق أميناج أوغلو، وهو قاضٍ سابق، ومدعٍ في محكمة الاستئناف: "بما أن القضاء قد فقد استقلاله تمامًا، فقد أصبح قوة وسلاحًا للحكومة السياسية. لا يعتبر هذا التطور لمشكلة في تركيا اندلعت في ليلة وضحاها وإنما هي مشكلة وصلت إلى ذروتها في ظل هذه الحكومة". لم تكن السجون أبدًا أكثر ازدحاما، فقد ارتفعت أعداد المعتقلين في عهد أردوغان، في حين أن نظام المحاكم يعاني من الضعف المشترك للقضاة عديمي الخبرة واليد الثقيلة للسيطرة الحكومية. تم تطهير حوالي 4000 قاضٍ في أعقاب محاولة الانقلاب الفاشلة في عام 2016، وتم استبدالهم على عجل بموالين لأردوغان، في كثير من الأحيان، وبعضهم بالكاد تخرج للتو في الجامعة. وقال متين فيزي أوغلو، رئيس اتحاد نقابات المحامين في تركيا، إن متوسط مستوى الخبرة للهيئة القضائية برمتها، والتي يبلغ قوامها 14000 قاضٍ، هو مجرد عامين ونصف من ممارسة القانون. مواجهة السلطة يخشى كثيرون منهم في أحسن الأحوال مواجهة السلطة، ويتعامل الغالبية كأداة إنفاذ للحكومة، خاصة أنها تطارد خصومها. لا شك أن أردوغان وحزبه يدركان أن الأزمة تقترب، ففي الشهر الماضي، أعلن أردوغان عن مجموعة من التغييرات، التي قال إنها سترفع ثقة الجمهور، وتحسن مناخ الاستثمار في تركيا. وقال أمام تجمع للمسؤولين القضائيين في القصر الرئاسي إن الإصلاحات ستركز على خدمة الشعب، وتأمين قضاء مستقل، وتحسين بلوغ العدالة، وتقصير مدة المحاكمات، مشيراً إلى أنه "عندما تتقلص العدالة في مكان ما، تزداد المظالم". ولكن بالنسبة للعديد من المهنيين القانونيين، كان خطاب أردوغان مجرد رنين أجوف. وقال فيسيل أوك، المدير المشارك لجمعية دراسات القانون والإعلام في اسطنبول: إنه "من الجيد أن يقروا بأن هناك شيئاً سيئا في النظام القضائي". وأضاف "لكن من ناحية أخرى، لدينا كل الحقوق في الدستور. وإذا اتبعوا القوانين المحلية والاتفاقيات الأوروبية، فلن يحتاجوا إلى الإصلاح". إخضاع المحاكم وعلى الرغم من أن أردوغان قد ضمّن علانية وجود سلطة قضائية مستقلة، فإن منتقديه يتهمونه بالعمل على إخضاع المحاكم. ولعل أهم مثال على ذلك هو مجلس القضاة والمدعين العامين، وهو أقوى هيئة قضائية في البلاد، وهو الذي يقوم بتعيين وعزل القضاة، ويطبق التدابير التأديبية وينتخب القضاة في المحكمة العليا. إذ يقول اختصاصيون قانونيون إن المجلس في قبضة أردوغان بشكل أساسي منذ استفتاء عام 2017، الذي وسّع سلطات الرئاسة ومنحه سيطرة فعلية عليه. لكن أردوغان نفَّذ أيضًا عملية تطهير داخلي للعاملين، لإعادة النظر فيما اعتبره، هو ومؤيدوه الإسلاميون، سنوات من الحرمان من الحقوق على أيدي هياكل الدولة العلمانية إلى حد كبير، التي رفضت العمل معه حتى بعد أن أصبح رئيساً للوزراء. وفي الآونة الأخيرة، وبعد محاولة الانقلاب، تم تطهير حوالي 4000 قاضٍ، كثير منهم من حلفائه الإسلاميين السابقين، في خطوة ضاعفت سنوات من التدخل الحكومي. لقد أصبح القضاء غير مستقر، الأمر الذي يحذر منه المهنيون القانونيون. ومع عمليات التطهير، تمت ترقية جميع قضاة المحكمة الابتدائية تقريبًا إلى محاكم الاستئناف، وتم تعيين الوافدين الجدد في المحاكم من أول درجة. وقال فيزي أوغلو إن النتيجة هي أن العديد من القضاة، غير القادرين أو غير المتأكدين من كيفية التعامل مع القضايا، يقومون بإحالة قضاياهم إلى محاكم الاستئناف، التي تتكدس فيها تلك القضايا. نزلاء السجون وفقاً لما ذكره محمد علي كولات، مدير مركز أبحاث سياسية، ارتفع عدد نزلاء السجون إلى 272000، أي خمسة أضعاف عددهم، الذي كانوا عليه، عندما جاء حزب الحرية والعدالة إلى السلطة، قبل 17 عاما. وقال كولات إن ما لا يقل عن 15 مليون مواطن تركي محاصرون في عملية العدالة الجنائية، كشهود أو مدعى عليهم، حيث يجري النظر في 7.5 مليون قضية جنائية، مضيفاً أن الانتهاء من القضايا يتخطى 16 ضعف الوقت الذي تستغرقه في الولايات المتحدة. كما أن الأكثر من ذلك، هو قلة خبرة القضاة، وحقيقة أن الكثيرين منهم مدينون بوظائفهم لحزب أردوغان، ولذلك فإنهم أكثر عرضة لضغوط الحكومة. وقال فيزي أوغلو: "إذا سألتني ما إذا كان هذا النظام يوفر للقضاة الضمانات اللازمة، يمكنني بسهولة أن أقول إن القضاة لا يشعرون بذلك". إن أولئك، الذين لا يدينون بالولاء لحزب أردوغان، رأوا زملاءهم يتعرضون للتطهير أو السجن، بمن فيهم الأشخاص الذين ليس لهم أي علاقة بفتح الله غولن، رجل الدين المتهم بالتحريض على الانقلاب. إن الخوف من الملاحقة القضائية أدى إلى إصابة أداء كل من القضاة والأوساط الأكاديمية بالشلل. وقال جينك ييجيتير، أستاذ القانون السابق بجامعة أنقرة، الذي تم تطهيره من وظيفته لتوقيعه على عريضة تدعو لإحلال السلام: "لذلك يخشى الجميع من أن يتم تطهيرهم أو وصفهم بأنهم من أتباع غولن". ويقوم أرباب الأعمال بمعاقبة المسؤولين، الذين تم تطهيرهم، مرارًا وتكرارًا، خشية تكوين الجمعيات، كما يتم مصادرة جوازات سفرهم. تم توجيه اتهامات إلى ييجيتير في 6 قضايا جنائية. وقال ييجيتير: "يبدو الأمر، كما لو أن حشدا كاملا من الأتراك تم طردهم من كونهم مواطنين". لقد وجد ييجيتير نفسه مؤخرا ينصح طالبا بعدم الذهاب إلى الأوساط الأكاديمية بسبب القيود. وقال: "إن ثقافة الخوف هذه سائدة في الجامعات لمدة 20 سنة أخرى". يعرف القاضي المتقاعد عمر فاروق أمين أغا أوغلو، الذي كان لمدة طويلة يعد بمثابة شوكة في جانب أردوغان، غضب الحكومة أكثر من غيره. قام أمين أغا أوغلو، كقاض ومدع عام، بنظر القضايا المرفوعة ضد أردوغان وحزبه السياسي، ثم أسس جمعية من القضاة للعمل من أجل استقلال القضاء. إهانة الرئيس ولكنه حاليا أصبح محامياً، منشغل معظم الوقت بالدفاع عن نفسه ضد نصف القضايا التي رفعتها ضده الحكومة. وقال أمين أغا أوغلو، هو يشير إلى رفوف ملفات ضخمة في مكتبه بأنقرة: "إن نصف هذه القضايا مرفوعة ضدي شخصيا". تم اتهام أمين أغا أوغلو عدة مرات بتهمة إهانة الرئيس أو الدولة بسبب تعليقاته التي ينشرها على وسائل التواصل الاجتماعي. ويواجه الكثيرون الآخرون تهما أكثر خطورة، تتعلق بالإرهاب أو محاولة تقويض الدستور. وقال أمين أغا أوغلو، في تعقيب للتدليل على مدى ما وصل إليه الرعب من اضطهاد الحكومة: "يتردد زملائي، الذين اعتادوا العمل معي، حاليا في أن تلتقي نظرات أعيننا".
مشاركة :