نصادف بين الفينة والأخرى كتابا من طينة خاصة هوايتهم التمرد؛ عن جدارة واستحقاق، على شيء اسمه التخصص. من ضمن هؤلاء نجد الصحفية إليزابيث كولبرت؛ الكاتبة في مجلة "نيويوركر" الأمريكية، صاحبة كتاب "الانقراض السادس: تاريخ غير طبيعي" (2014)، المترجم حديثا إلى اللغة العربية (أبريل 2019) عن سلسلة عالم المعرفة. استطاعت المؤلفة أن تذهب بعيدا، فيما تدافع عنه من أفكار ورؤى في كتابه بأسلوب متقن وبسيط يأسر القارئ؛ متخصصا كان أو غير ذلك، مستغلة قدرتها على الوصف والسرد، من موقعها في الخطوط الأمامية من الصدام العنيف بين الحضارة الإنسانية والنظام البيئي؛ حيث تداعيات الانقراض آخذة في التجلي والبروز، كما سبق لعديد من العلماء أن حذروا من هول الكارثة التي نحن مقبلون عليها. يعد هذا الكتاب الذي استطاع التعبير بذكاء وبشكل متناغم عن عديد من الأطروحات المتداولة عن الشأن البيئي، امتدادا لكتابها السابق والنوعي "ملاحظات ميدانية من كارثة" (2006)، حول ظاهرة الاحتباس الحراري حيث قدمت نوعا نادرا من الكتابة في البيئة والجغرافيا وتاريخ الإنسان، الذي تحول الآن إلى واحد من الكلاسيكيات المعاصرة عن الموضوع. عززت كولبرت بهذا الكتاب سمعتها، ككاتبة تعنى بمواضيع تحتاج إلى الدقة والمعرفة والموهبة في جمع المعلومات والاستقصاء والتحقق الميداني، من خلال رحلات استكشافية إلى عين المكان. ما مكنها من تعميق البحث في العلاقة بين البشر والبيئة، والتأكد من فرضية رائجة مفادها أن السلوك البشري على وشك التسبب، أو ربما شرع فعلا، في حدوث الانقراض السادس في تاريخ كوكب الأرض. تنهج المؤلفة طيلة فصول الكتاب الـ13 أسلوب التاريخ الفكري الملتوي، كي تكشف لنا عن حالات الانقراض السابقة. فبحسبها شهد كوكبنا منذ 3.8 مليار سنة خمس حالات انقراض جماعي، آخرها حدثت منذ 66 مليون سنة. إذ يعتقد أن كويكبا ضرب الأرض، فقتل جميع الديناصورات، وبدل هذا الانقراض تركيبة التنوع البيولوجي على الأرض؛ فتداعت الأنظمة البيئية البحرية، واختفى 75 في المائة من جميع أجناس النبات والحيوان. تاريخيا، تعود كولبرت إلى تاريخ العلوم قصد التأكيد على أن فكرة الانقراض حديثة نسبيا، فحتى أرسطو الذي أنجز عشر مجلدات عن تاريخ الحيوانات، لم يستطع التفكير في إمكانية احتمال أن يكون للحيوانات ماض. أكثر من هذا، تعتقد أن البشر لم يكونوا قادرين على استيعاب فرضية وجود كائنات قد انقرضت فعلا بسببهم، إلى أن جاء الفرنسي جورج كوفييه (1769- 1832) عالم الطبيعيات الذي طرح، لأول مرة، فكرة وجود بعض الأنواع التي عاشت قبل آلاف السنين. نحن مقبلون على عصر "الانقراض الجماعي السادس" حيث يسير عديد من الأحياء نحو هذه الظاهرة الطبيعية، التي يشارك الإنسان بنصيب كبير في حدوثها. فالكتاب يرصد اجتماع ثلاثة عوامل، هي: الارتفاع المهول في عدد السكان، وتطوير التقنيات الجديدة التي تعظم من أثر كل فرد منا، وأخيرا سيادة الأيديولوجية التي تفضل التفكير القصير الأجل على التبعات الحقيقية البعيدة الأجل لما نتخذه من قرارات في كافة عدة مجالات الصناعة، الطاقة، الزراعة، الغابات وغيرها، سرّعت في بروز الموجة الجديدة من الانقراض. تتباين المعطيات العلمية المتراكمة في ترتيب أسباب الانقراضات الخمسة، ما بين التغيرات المناخية والثورات البركانية والاصطدامات النيزكية، لكنها تجمع على تلخيص العوامل المفضية إلى الانقراض السادس في كلمتين "الجنس البشري". فالإنسان لا يزال يستخدم الغلاف الجوي للكرة الأرضية كأنه بالوعة صرف مفتوحة، لنفاياتنا اليومية التي تتجاوز 90 مليون طن من النفايات الغازية. استمرار الحال على ما هو عليه، يعني استمرار ارتفاع درجات الحرارة عالميا، وهو ما سيؤدي إلى "أحداث مبدلة للعالم"، وفق ما جاء على لسان كولبرت. كما تتعرض دورة المياه على الأرض لاختلال شديد؛ فالمحيطات الأكثر دفئا تبخر مزيدا من المياه في الهواء، ويحتفظ الهواء الأكثر دفئا بمزيد من الرطوبة؛ بلغت نسبة زيادتها عالميا 4 في المائة خلال الـ30 عاما الماضية، يوجهها إلى الكتل الأرضية حيث تسيل على مساحات شاسعة من الأرض على هيئة أمطار غزيرة، محدثة فيضانات وأعاصير وعواصف مدمرة. هذا ما يؤكده تقرير للاتحاد العالمي للحفاظ على الطبيعة الذي يقر بأن أكثر من 50 نوعا من الحيوانات تنقرض كل سنة. ووقفت الكاتبة عند بعض الأمثلة بالتفصيل في الكتاب (الضفدع البنمي، الماستودون، الأمونيتات...). ويضيف ذات التقرير أن قرابة 41 في المائة من البرمائيات و25 في المائة من الثدييات مهددة بالانقراض. بلغة الأرقام وبكل وضوح، انضافت أصناف جديدة للقائمة الحمراء للكائنات المعرضة للانقراض، حيث بلغت ما مجموعه 22784 نوعا؛ وهو ما يعادل تقريبا 1/3 من الكائنات الحية. ويشار إلى أن العلماء قدروا أن معدل الانقراض تسارع 100 مرة من المعدل الطبيعي؛ مشيرين إلى أن الإنسان أوجد مزيجا ساما من فقدان مواطن السكن والتلوث والتغير المناخي، ما أدى إلى فقدان ما لا يقل عن 77 نوعا من الثدييات، و140 نوعا من الطيور، و34 نوعا من البرمائيات بهذا السبب وحده منذ عام 1500. تؤكد كولبرت أن "الناس يغيرون العالم من حولهم"، ويدفعون الكائنات باتجاه الانقراض الجماعي، دون أي اهتمام أو ربما وعي بخطورة ما هم بصدده. وحتى تلك القلة القليلة الواعية بهول ما يجري، تظل بطيئة جدا فيما يتعلق بالإجراءات الضرورية بشأن التكيف لمواجهة هذا التحدي العالمي. تخلص الكاتبة في النهاية، وقبلها الكثير من العلماء ممن يشاطرونها الفكرة نفسها، بعد استعراضها لمختلف التجارب الميدانية التي قامت بها، وكل الحقائق التي وصلتها من مختلف مناطق العالم إلى نتيجة مفادها أن سادس عملية موات شامل للتنوع الحيوي هي الآن جارية، وذلك بسبب أنشطة نوع واحد من الكائنات تطورت في نهاية المطاف مقارنة ببقايا الكائنات السابقة، وتمكن من استعمار الأرض، وهذا النوع هو الإنسان، العاقل الأول.
مشاركة :